التعذيب بالتوعية الصحية والتعليمية

توعية المواطن أمر جميل جداً بل ورائع.. ولكن مطالبته بسلوك فعل معين مع سد المسلك أو عدم وجوده أصلا أمر فيه الكثير من جرح المشاعر بل قد يصل إلى حد تعذيب المتلقي، لأنه يسمع نصيحة جيدة ويرغب في اتباعها حرفياً لكنه لا يجد سبيلاً إلى ذلك، لأن نفس الناصح لم يوفر الآلية التي تفعل النصيحة.

هذا وربي يبين بوضوح أن بعض مؤسساتنا تعرف الإجراءات الصحيحة بل والمثالية نظرياً بحكم اطلاع بعض منسوبيها لكنها لا توفر الإمكانات لتفعيلها وهي بذلك تعذب المواطن بدلالته على السلوك الصحيح وعدم تمكينه من اتباعه.

تماماً مثل من يمجد فوائد تنويع الأغذية لفقراء لا يجدون ما يسد رمقهم أو من ينصح جياع أفريقيا بتناول الكيك طالما عدموا الخبز.

بل لماذا نلجأ إلى مثل الأفارقة والكيك فلدينا العديد من الأمثلة الحية التي تدلل على ما أشرت إليه.

في مجال التعليم، تتزين جدران المدارس الحكومية برسوم تخطيطية لكيفية الإصابة بالبلهارسيا في حين لابد للطالب كي يستخدم دورة المياه أن يخوض في مستنقع من مياه المجاري المسدودة، ويقرأ على نفس الجدران خطورة الذباب كناقل للمرض ويراه يحوم على أغذية “المقصف” بكل رشاقة وحرية. ويسمع الطالب ويقرأ كلمات رنانة عن خطورة التعليم بالتلقين ويرى درجاته تتهاوى عندما يستخدم مترادفة لمفردة لقن إياها. ويسمع ويقرأ عن إدخال الحاسوب “الوطني” وهو يفتقر للمكيف الصحراوي!!

في مجال الصحة، أثار شجوني خبر نشرته (الرياض) منسوباً للدكتور عدنان عزت رئيس قسم الأورام بالتخصصي مفاده أن (50%) من الوفيات بسبب السرطان سببها عدم الكشف عنه مبكراً، لأن المريض لا يأتي للمستشفى إلا بعد استفحال المرض وانتشاره والسبب بطبيعة الحال عدم اجراء فحوص طبية دورية. والطبيب الذي صرح بذلك غير ملوم بل يعتصر ألماً على أرواح يشاهدها تهدر بصفة يومية.

وكثير من الأطباء المخلصين يصرخون يومياً في وسائل الإعلام ينصحون الناس بإجراء فحوص دورية كل ستة أشهر لاكتشاف الأمراض الصامتة قبل أن تستفحل، كل هذه نصائح جميلة ورائعة ولكن!!

أعطني مستشفى حكومياً واحداً يقبل من مواطن طلباً بإجراء فحوصات دورية متكاملة كفيلة بكشف هذه الأمراض الصامتة.

إذا كان المريض المشخص مرضه يعاني الأمرين حتى يجد مستشفى يتابعه، فكيف بمن هو سليم ظاهرياً ويأتي طالباً إجراء فحوص احترازية.

هذه الفحوص التي يطالب بها الأطباء لا تجرى في مراكز الرعاية الصحية الأولية وتلك المراكز لا تحول للمستشفى المتمكن من إجراء هذه الفحوص إلا مريضاً ثبت اعتلاله.

حتى الآن لا تتوفر آلية يستطيع بواسطتها المواطن أو المقيم إجراء فحوص احترازية للأمراض الصامتة ولا أبالغ لو قلت أن من يتجه للمستشفى (أي مستشفى تابع لأي قطاع حكومي) طالباً إجراء فحوص متكاملة قد يضحك عليه موظف الاستقبال!! فكيف ننصح الناس بما لم نوفر لهم الآلية لتطبيقه أليس هذا استغفالاً؟! لا أقصد هنا الأطباء ولكن القائمين على كل القطاعات الصحية باستثناء المستشفيات الخاصة التي يسعدها قبض قيمة الفحص وليس كل مواطن قادر على تكاليف الفحوص المقصودة!!

إن المواطن اليوم يلجأ إلى التبرع بالدم ليتمكن من معرفة نتائج بعض تحاليل الدم المحدودة ذات العلاقة بالأمراض التي تنتقل بالتبرع، أما من يرغب الاطمئنان على خلوه من أمراض سرطانية أو تليف كبد أو ما هو أقل من ذلك فإن الأبواب أمامه موصدة ويتحسر عندما ترتفع الأصوات لتنادي بضرورة الفحص المبكر.

موجز القول أن ثمة فرقاً كبيراً بين التوعية وتوفير الأسباب(!!) وإذا علت أصوات التوعية بسلوك مطلوب ولم توفر المسالك لمن يتجاوب معه فإن في ذلك استغفالاً أو تعذيباً. ولا نقول أوقفوا التوعية ولكن أوجدوا المسالك السهلة أولاً.

وأختم دعواي بالتذكير بأن كل المدارس تحتوي على لوحات تقول أغسل يدك بالماء والصابون قبل الأكل وكل المدارس ليس بها صابون فهل أرخص من الصابون؟! وفروا الصابون على الأقل حتى لا تتسخ لوحة مفاتيح حاسوب وطني الذي تطبلون لتطبيقه بانسياب!!

اترك رد