أعلنت وزارة التجارة ممثلة بمكافحة الغش التجاري كشف عدد من عمليات الغش التجاري في مستودعات تحتوي على حليب الأطفال منتهي الصلاحية يجرب بيعه وترويجه وذكر الخبر أن العقوبة بحق أصحاب هذه المستودعات هي غرامة مائة ألف ريال وقفل المستودع (90) يوماً. وأعجب كيف تطبق الحنية والرأفة بمثل هؤلاء المجرمين في وقت ترتفع فيه الرسوم تدريجياً على ذوي الدخل المحدود إلى درجة التفكير في تطبيق رسوم على الطرق.
إذا قسنا هذه العقوبة بالمفهوم التجاري مفهوم الربح والخسارة وهو في صميم تخصص وزارة التجارة فإن أولئك الغشاشين رابحون لا محالة حتى مع خصم مائة ألف ريال وإغلاق المستودع (90) يوماً فهذا المبلغ لا يشكل سوى قيمة بضعة “كراتين” والتالي فإن المجازفة بممارسة الغش التجاري تعتبر أمراً مشجعاً للغاية فذلك الغشاش لو نجح في ممارسة جرائمه مدة ثلاثة أيام سيكون قد ضمن ربحاً كبيراً حتى لو تم القبض عليه، خاصة وأن الربح في سلعة منتهية الصلاحية يعتبر 100% لأن الأصل هو إتلاف هذه السلعة أي أن قيمتها الفعلية قبل البيع هي صفر.
هذا فيما يخص ممارسة الغش في حق أبناء الوطن والمقيمين فيه حيث يعتبر بناء على العملية الحسابية آنفة الذكر رابحاً في كل الأحوال وإذا لم يقبض عليه أو تأجل القبض عليه بضعة أسابيع فإنه سيصبح مليونيراً في ظل تلك العقوبات الهشة المشجعة.
دعونا ننظر للطرف الآخر وهو الوطن، كم سيتكلف نتيجة لتلك العملية؟!.
قد ينتج عن استخدام حليب أطفال منتهي الصلاحية عدد كبير من الوفيات لفلذات أكباد مواطنين أو مقيمين ولا يحق لنا هنا وضع قيمة مادية لخسارة بشرية لأنها لا تقاس بثمن، ناهيك عن ما يترتب عليها من آثار نفسية على الأهل يعاني منها المجتمع ويدفع تكاليف علاجها وثمن انخفاض انتاجية أفرادها، هذا فقط من منظور اقتصادي.
بالمناسبة فإن دية المقتول خطأ كحوادث السيارات هي مائة ألف ريال للفرد الواحد، ولا أعتقد أن القاتل بحليب منتهي الصلاحية يصنف ضمن القتل الخطأ وأذكّر بأنه قتل جماعي إذا حدث وليس قتل فرد.
التكلفة الوطنية الثانية تتمثل في علاج المصابين جراء تناول حليب منتهي الصلاحية إذا كتبت لهم الحياة وهذه أتمنى من وزير التجارة أن يطلب من وزارة الصحة أو أي قطاع صحي آخر إفادته عن فواتيرها!!.
الخسارة الوطنية الثالثة تكمن في تشجيع سلوك الغش والفساد والممارسات الخاطئة على حساب السلوك التجاري السليم “الحلال” فالعقوبات الهشة، المشجعة تشكل وسطاً مناسباً لتفشي الانحراف من المسار السليم إلى الخاطئ إذا نجح الشيطان في مادة الرياضيات ووضع أمام التاجر عدداً من الخيارات المحاسبية للربح والخسارة بناءً على حساب العقوبة الدنيوية الخاصة بوزارة التجارة والأرباح التي تترتب عليها!!
وقد يقول قائل إنك بما كتبت فتحت العيون وسهلت على إبليس عمله وهنا أقول إن عيون الغشاشين مفتوحة بحجم الريال ويبقى أن تفتح وزارة التجارة عيونها!!.
الخسارة الوطنية الرابعة تكمن في حرمان الوطن من موارد مالية مستحقة في شكل غرامات مجزية ومفيدة مثل مليون بدل مائة ألف وهذا أمر أعجب له كثيراً ويقلقني أكثر، ففي الوقت الذي ترتفع فيه رسوم الخدمات من كهرباء وهاتف وانترنت وماء وترتفع فيه غرامات إعادة هذه الخدمات على مواطن كل ذنبه ان الفاتورة لم تصله أو انتظر على أحر من الجمر جمع قيمتها فإن غرامات الغشاشين تكون على هذه الدرجة من الحنية والهشاشة.
لعل من المصادفات الطريفة أن أحد وكلاء وزارة التجارة السابقين كسب قضية تسمم غذائي ضد الخطوط البريطانية وحصل على تعويض قدر بحوالي مليون ونصف المليون ريال مع أن التسمم لم يكن مقصوداً.