فساد الجلد الأملس

نخطئ كثيراً في جهودنا لمكافحة الفساد إذا قصرنا تعريف الفساد الإداري على أنه الاختلاس أو قبول الرشوة أو هدر المال العام فقط.

الفساد الإداري يتجسد في صور عديدة بعضها واضح وضوح الشمس في رابعة النهار ولا يحتاج لكثير جهد لكشفه وإيقافه، وهذا أولى بأن يحارب لأن تركه يعني انتشاره إلى درجة الاستباحة.

الموظف الحكومي ممنوع بحجة النظام من ممارسة نشاط تجاري مؤسسي أي لا يمكن له الجمع بين العمل الحكومي وامتلاك مؤسسة أو حتى محل تجاري.

الهدف من هذا المنع أعمق من مجرد تحقيق التفرغ للعمل الحكومي ويتعداه إلى منع ما قد تسوِّل به النفس من استغلال للمنصب في تسهيل مهمة العمل التجاري!!

عندما تستباح مخالفة النظم فإن الضمير بطبيعته المطاطية يزداد مرونة لتقبل المزيد من المخالفات.

استغلال المنصب لتسهيل مهمة النشاط التجاري الشخصي ليس هو الأمر الأكثر إزعاجاً أو الحد الذي تتوقف عنده المخالفة، ولو كان الأمر كذلك لكان أخف وأسهل ولا أقول أكثر قبولاً لأنه مخالفة وحسب.

الطامة الكبرى عندما يصل التمادي إلى مرحلة استغلال إمكانات وموارد وكوادر مستشفى حكومي مثلاً أو خدمات طبية حكومية لخدمة مستوصف أو عيادات خاصة تعود ملكيتها للقائم على المستشفى أو الخدمات الطبية، أو عندما يغض الطرف عن المدارس الأهلية في مخالفاتها للأنظمة أو رفضها للسعودة لأن أحد أو بعض موظفي التعليم يمتلك مدارس خاصة أو يشارك فيها.

هذه مجرد أمثلة من خدمات أساسية وحساسة قد تتأثر كثيراً بالاستغلال السيئ للسلطة الإدارية وتوظيف قوتها “دون خجل” لخدمة الذات، وهي بالتأكيد ليست الأمثلة الوحيدة، لكنها من أكثر الأمثلة وضوحاً وتأثيراً في العاملين خاصة عندما تخرج من حيّز السرية والخفية إلى نطاق المجاهرة إلى حد يجعل عامل الصيانة في خدمات طبية مثلاً يعلم أن أجهزة المستشفى الحكومي تستخدم في تأثيث عيادة خاصة أو أن بعض الجهاز الطبي أو التمريض الذي عين في المستشفى الحكومي يعمل جل وقته أو كله في مستوصف خاص.

نفس الافتراض ينطبق على أي مهنة أخرى أو مشروع يساء استخدامهما في تحقيق مصالح شخصية في أي شكل من الأشكال.

تلك الممارسات لا تحتاج إلى جهد كبير لكشفها لأن داء “استملاس الجلد” يسهل مهمة الكشف، وهو بالمناسبة داء غير معد ولكنه ينتشر بالتقليد، وأستطيع تعريفه بأنه التعود على ممارسة الممنوع إلى درجة اعتباره مباحاً، يقال “استملس” جلد الشخص أي أصبح أملساً لا يحس بالمؤثرات من حوله ويمكنه بسهولة “الإجحار” في أي جحر دون إحساس، وبالتالي فإنه لا يرى غضاضة في معرفة الآخرين بما يفعل ولذا فإنك ستجد كثيراً من موظفيه صغاراً وكباراً يعلمون أن ذلك المستوصف له وتلك العيادة لأحد شركائه وأن أجهزة “تتبع” للجهة الحكومية لكنها “تقبع” في عياداته!!

غني عن القول أن “استملاس” الجلد يمكن تصنيفه ضمن عوامل “التعرية” لأنه يتكون بفعل الزمن فكلما بقي الشخص مدة أطول في وظيفته كلما كسب مزيداً من الخبرات، تأتي من ضمنها خبرات إساءة استخدام الإمكانات وتزايد الاطمئنان مع الإمعان.

ويجدر بنا الإشارة إلى أن هؤلاء قلة ولا يشكلون رقماً يسيء للعموم لكن توجّه الدولة حفظها الله في مكافحة الفساد يجعل من الضروري التنبيه إلى صوره المتعددة.

اترك رد