لو لم تسلم الجرة

أعتقد أن معاناتنا الحقيقية تكمن في سوء التقدير، ليس فقط في أمر توقع وقوع الخطر وتلك معضلة قديمة طالت، ولكن أيضاً في سوء تقدير نتائج وقوعه والانفعالات التي يمكن أن تصاحب حدوث وفيات جماعية في حافلة أو تجمع أو سوق أو مدرسة وخلافه.
مثلاً، عندما تحققت معجزة ونجت عشرات من الطالبات من الغرق في داخل حافلة النقل بنفق السويدي وتم إنقاذهن جميعاً على أيدي مجموعة شباب جازفوا بأرواحهم فإننا احتفلنا بنجاح عملية الإنقاذ وانشغل إعلامنا بتمجيد أولئك الشبان وإجراء الحوارات معهم وهو أمر مستحق بل علينا أن نكرمهم رسمياً فقد أنقذوا عشرات المسؤولين والأطراف عندما أنقذوا الطالبات.

ولكن دعونا وبشيء من المصارحة نتخيل صورة كان من الممكن أن تحدث بنسبة كبيرة جداً بل وأكثر احتمالاً من أمر النجاة، ماذا لو كان السيل أسرع وطمرت المياه الحافلة وغرقت الطالبات في مقاعدهن داخل الحافلة ولم يكن أمامنا إلا سحب الحافلة تحمل جثثاً بريئة غارقة داخل عباءات الستر وعدد من الجثث تحيط بالحافلة لشبان من ذوي النخوة ممن حاولوا إنقاذ الطالبات لكن الماء والطين وسقف النفق كان أقوى من إمكاناتهم فسلب أرواحهم وزاد من عدد الضحايا؟!.

تلك الصورة المأساوية كانت واردة الحدوث بنسبة كبيرة جداً لكننا لم نتطرق لها بشيء من المحاسبة لأنها وبكل بساطة لم تحدث!!.

من سنحاسب لو وقعت الكارثة بصورتها المحتملة جداً التي حاولت تخيلها أو بصورة أكثر بشاعة وهو أمر ممكن أيضاً؟!.

هل سنحاسب من ردم قنوات صرف مياه السيول بمخلفات البناء وتسبب في تراكم المياه في النفق؟ أم سنحاسب من أهمل الرقابة على سلامة القنوات قبل سقوط المطر؟!

هل سنحبس صاحب مؤسسة النقل الذي وظف سائقاً غبياً أنانياً جازف بأرواح الطالبات ثم هرب بجلده ومرافقته أم سنعزل من تعاقد مع مؤسسة غير مؤهلة؟!.

ما عسانا قلنا عن الدفاع المدني الذي حضر غير جاهز وتفرج أفراده؟!.

بل هل كنا سنتحدث إعلامياً عن الكارثة ونكتب حولها مقالات لوم مطولة ونقداً لاذعاً ومطالبات عزل وفصل وإعفاء مثلما تعاملنا مع حريق مدرسة مكة؟! وهل كنا سنكتفي بسرد القصص الطريفة مثلما فعلنا الأسبوع الماضي ونحن نتحدث عن عملية الإنقاذ والمسن الذي حاول المشاركة في الإنقاذ لكنه شاركهن في الغرق وتم إنقاذه بأعجوبة هو الآخر؟!.

لو أن الحادثة انتهت نهاية مأساوية هل كان ثمة فرصة للقائمات على الكلية والقائمين على التعليم لأن يحولوا الاهتمام واللوم على من صور بالجوال فقط لصرف النظر عن أسباب القصور الأهم وهي عدم الاكتراث في أمر نقل الطالبات وإيكاله لمؤسسة تستخدم أجهل فئات العمالة وأقلهم اكتراثاً؟!.

مشكلتنا الكبرى أيها السادة والسيدات أننا لا نعتبر بما يحدث ولا نتقي ما كان يمكن أن يحدث ولا نتعلم من السلامة ما ندرأ به الخطر ولذلك فإننا لا زلنا لا نفرض مخارج طوارئ وخطط إخلاء لمراكزنا التجارية، ولا نعاقب سائق حافلة النقل الجماعي شخصياً إذا ساق بسرعة جنونية معرضاً أرواح الركاب للخطر وهو ما يحدث تكراراً ومراراً دون رادع لا من المرور ولا الشركة في انتظار وقوع كارثة، ومع أن ركاب الحافلة لا يقلون كثيراً عن عدد ركاب طائرة إلا أن الشركة لا تمارس فحص الصحة العقلية للسائقين وكأن خطرهم يقتصر عليهم هم فقط!!. بل اننا لا نتعامل جدياً مع ما وقع من إنذارات حوادث القطارات وسوء صيانة سكة الحديد الوحيدة!!.

علينا أن نكون أكثر جدية وحذراً في إجراءات الوقاية من الحوادث الجماعية فإذا وقعت ولم ينجم عنها وفيات لأن الله ستر فإن علينا أن نتعامل معها وكأنها لم تستر!! كان علينا أن نتعامل مع حادثة نفق السويدي وغيره وكأن الموت حدث والحزن عم وإلا فإننا لن نحتاط للقادم من الأحزان ونتلافاها.

لتكن حكمتنا في معاقبة المقصرين أن الجرة لا تسلم كل مرة!!.

اترك رد