لا أعتقد أن ممارسة خاطئة مرت على هذا الوطن أخطر من ترك الأطباء الاستشاريين مواقع عملهم الحكومي نهاراً جهاراً وأثناء الدوام الرسمي ليعملوا في مستشفيات خاصة، ضاربين عرض الحائط بالأنظمة والمنع وقبل ذلك الخوف من الله وأمانة المهنة.
أساس تقييم الخطورة هنا يعود إلى عدة اعتبارات أساسية منها ترك المريض في المستشفى الحكومي محروماً من إشراف الطبيب الاستشاري الذي تدفع له الدولة رواتب عالية وبدلات أعلى وصرفت على تعليمه وتدريبه وأوصلته إلى ما وصل إليه، ومنها أيضا ممارسة الطبيب الاستشاري لمخالفة لا تليق بمن يطلق على مهنته أعلى صفات الإنسانية واضطراره لممارسة الكذب لتبرير عدم تواجده في مقر عمله الرسمي، وغني عن القول أن مجرد الانخراط في سلك التحايل ومخادعة الناس بداية أعراض الفساد إن لم تكن أعراضه المتقدمة.
عندما يرد طبيب استشاري على النداء الآلي من خارج المستشفى الحكومي أثناء وقت الدوام الرسمي ويبلغ سكرتير القسم مثلاً أنه في غرفة العمليات وهو ليس كذلك بحكم اتصاله من خارج المستشفى فقد أساء لمهنة الطب النبيلة ولجميع من ينتسب إليها لأن هذا النوع من المراوغة مقبول من أصحاب مؤهلات دنيا أو صغار سن ومركز ولكن ليس ممن أدى القسم بناء على حساسية مهنته.!!
وعندما يطلب الطبيب الاستشاري من أحد أعضاء فريقه الطبي المبتدئين أو المتدربين التغطية على غيابه غير النظامي بالادعاء أنه في غرفة العمليات فهو بذلك درب وعود وربى أحد تلامذته على الكذب وخيانة الأمانة، هذا خلاف أنه لم يشرف على تدريبه حسب ما تقتضيه الأمانة وأهمله مثلما أهمل المريض.
الوضع الصحي المتدهور وتراجع التعليم الطبي والأخطاء الطبية نتائج لممارسة الأطباء الاستشاريين لهذه المخالفات المتمثلة بأخذ راتب ضخم من الدولة والعمل في القطاع الخاص أثناء الدوام الحكومي تحدث عنها المجتمع بأسره واشتكى منها في كل موقع وأصبحت حديث المجالس واللجان والاجتماعات لكن علاجها لا يزال مستعصياً.
الوضع الأخلاقي المتدهور في مهنة الطب هي النتيجة الثانية التي بدأت رائحتها تفوح في شكل لجوء الاستشاري للمراوغة والكذب والتسيب وسيادة فكر المتاجرة بالاسم والتوقيع ووصف الأجهزة من متاجر طبية محددة تصرف نسبة أو تعود ملكيتها للطبيب وهذا التدني الخطير أمر متوقع فليس أسهل ولا أسرع من توالي التنازلات الأخلاقية.
لذلك فإن من الحكمة أن نوقف هذه الممارسات فوراً وبأساليب رادعة لا أن نندفع خلف مقترحات إعطائها المظلة النظامية لأن الوضع حالياً يعتبر مأساوياً فما بالك عندما نوجد لهم الأعذار.
قلتها كثيراً ومراراً وتكراراً من أراده القطاع الخاص فليطلبه للانتقال ويمنحه الراتب المغري الذي يزيد على ما تمنحه الدولة ولن يقبل الرحيل ولو حصل على أضعاف مضاعفة لأنه يعلم أن الاستقرار لا يوفره القطاع الخاص ولا العائلي وما دام الأمر كذلك فعلى التاجر أن يبحث عن الحلول بقيمتها وليس على حساب الحكومة فيكفي أن الدولة منحت الأرض والقرض والتسهيلات وكان ردهم لأفضال الوطن هو التلميح بالرحيل إلى دول مجاورة فدعهم يرحلون وسيعودون لأنهم يعلمون أن أحدا لن يدللهم مثل هذا الوطن.