كشف النقصان

لعل أكثر ما عانت منه الوظائف الفنية لدينا من هندسة وطب وصيدلة هو استعجال الإدارة، وكان ذلك أكثر ما كان في سنوات الطفرة حيث أُخذ على كل موظف سعودي استعجاله الحصول على مكتب وكرسي إداري حتى لو كان تأهيله وتخصصه أهم من أن يهجر وتترك معلوماته تتبخر بسبب الرغبة في وظيفة إدارية مكتبية رتيبة .
بلغ الأمر ذروته عندما أصبح معظم أصحاب التخصصات المهنية والفنية التي تعتمد على تدرب اليد وخفتها يعملون جاهدين على التحول إلى وظيفة مكتبية .

حمى “المكتبية” تلك لم تدم طويلاً فما هي إلا سنوات وشحت الوظائف وأصبح العرض أكثر من الطلب وأدرك من لديه معدل ذكاء طبيعي أن البقاء للصنعة والمهنة ومهارة اليد واقتنع الشباب والشابات بالانخراط في الأعمال المهنية اليدوية والإبداع فيها، لكن القطاع الخاص لا يريد أن يقتنع ولا يزال يصر على أن الشاب السعودي لا يريد غير وظيفة مكتبية رغم وجود أمثلة مشرفة في الشركات الكبرى والمنشآت الحكومية وشبه الحكومية، لكن من لا يريد أن يقتنع من العبث أن تحاول إقناعه ويفترض أن يتم التعامل معه بطرق أخرى تجيدها وزارة العمل إذا أرادت!!.

حسناً، مشكلة الشباب مع رغبة العمل المكتبي انتهت دون رجعة، لكننا ابتلينا بما هو أخطر ومن موظفين يفترض أنهم أكثر نضجاً وعقلانية، أناس تحولوا من التخصص الفني إلى العمل الإداري، وحصلوا على مميزات لا يحلمون بها وقد لا يتخيلها زملاؤهم ومن هم أقدم منهم وأكثر حكمة وعقلانية .

نعموا بمميزات الوظيفة الإدارية وبدلاتها وحظوتها و”برستيجها” لكنهم لم يقدموا للوظيفة عملا يذكر ولا طيب ذكر ولا خيرا يؤجر بل على العكس ربما جنوا منها من الآثام والدعاء أكثر مما حصدوه من حطام الدنيا!!، وكل ذلك لأن طموحهم أصلاً كان خاطئاً.

فقد كان هدفهم استعجال الرئاسة دون أن يكونوا أهلاً لها، اعتقاداً منهم أن المنصب ليس له ثمن مع أن الأمانة لمن يحملها ولا يتحملها ثمنها في الآخرة باهض جداً وثمنها في الدنيا فقدان حب الناس والتعرض لمغبة ظلمهم وإهمال حقوقهم .

في هذا الصدد قال الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في كتابه “هكذا علمتني الحياة”: لا تستعجل الرئاسة، فإنك إن كنت أهلاً لها قدمك زمانك، وإن كنت غير أهل لها كان من الخير لك أن لا ينكشف نقصانك..

إن كان صغار الموظفين جعلهم الزمان يعتبرون بأن البقاء لصنعة اليد فهل ينتظر كبار الموظفين درس الزمن ليعتبروا.

اترك رد