حمى العمل في القطاع الصحي الخاص

بقلم الأستاذ الدكتور جمال الجارالله
استشاري واستاذ طب الأسرة والمجتمع
بكلية الطب بجامعة الملك سعود

 

نشر في الملتقى الصحي

فرض العمل في القطاع الصحي الخاص نفسه على الأطباء في السنوات الأخيرة، وأصبح جزءاً لا يتجزأ من منظومة الخدمات الصحية موازياً للقطاع العام أحياناً .. ومنافساً له أحياناً وطاغياً عليه أحياناً أخرى ..

 

ولا يشك أحد في أهمية القطاع الصحي الخاص والعمل به كرديف للقطاع العام الذي يتسم أحياناً بعدم المرونة في تقديم الخدمة الصحية، إما مكاناً وإما زماناً أو يقصر في تقديم بعض الخدمات المهمة، أو لا يلبي رغبات بعض المستفيدين ومنها الخدمات الفندقية ..

 

وإذا كان العمل في القطاع الخاص خيراً أو شراً لا بد منه تفرضه ظروف كثيرة وتدفع إليه، فلا أقل من أن يضبط بضوابط ويحاط بأنظمة تحول دون انحرافه إلى مالا تحمد عقباه ..

نعم .. إن العمل في القطاع الصحي الخاص حقيقة ماثلة للعيان لا يمكن إغفالها ولا إهمالها .. ولا محاربتها .. فقد يصل الأمر أحياناً إلى حد الضرورة التي لا محيد عنها ..

لقد رفع كثيرون عقيرتهم بالتشكي من سلبيات العمل أو العاملين في القطاع الخاص، وما يحدثه ذلك من تأثير سلبي ليس على العاملين في هذا القطاع وحدهم وإنما على مهنة الطب وشرفها.. ورفعتها..

تحدث المتحدثون عن التنافس غير الشريف في العمل في القطاع الخاص، وما ينتج عنه من شياع المؤامرة .. حيث تضيع كثير من القيم السامية التي تفترض في الأطباء قبل غيرهم أن يتصفوا بها ويلتزموا بأصولها.

أما الإعلان عن الخدمات فهو غني عن الحديث عنه، فالصحف والمجلات ووسائل الإعلام الأخرى تعج بأنواع من الإعلان تجاوزت كل حدود الأنظمة والأعراف الطبية والتقاليد بل وحتى حدود الحياء … ويرتد إليك طرفك حسيراً وأنت تقلب صفحات الجرائد والمجلات فتقرأ فيها نماذج من الإعلانات لا يمكن قبولها بحال ,, فهي إما إنها تحمل أنواعاً من المبالغة، أو تستخف بالقارئ المستهلك المسكين، وتشكل عليه ضغطاً هائلاً مباشراً أو غير مباشر.. لكن المحصلة في النهاية هي نوع من الخداع ولون من ألوان الغش.. كان الأولى بالأطباء أن يترفعوا عنه وأن يرفضوه.

وتحدث المتحدثون بل تواترت الأخبار عن استغلال حاجة المرضى للعلاج، وجهلهم بالمعلومات الطبية، وغياب الرقيب، ودفعهم إلى أنواع من الإجراءات الطبية ليسوا في حاجة إليها، ولا تستدعيها حالتهم الصحية بل ربما كانوا أصحاء متوهمين يزيدهم الطبيب بحنكته وخبرته – وربما بخبثه – وهماً على وهم، ويصور لهم أنهم في حاجة إلى ذلك الإجراء الطبي او تناول تلك الأدوية على وجه السرعة وإلا حلت الكارثة.

وفي كثير من الأحيان زالت آلام المريض ومعاناته دون أن تجرى له تلك الإجراءات الطبية ودون أن يتناول حبة دواء واحدة … بل بلمسة حانية من يد نظيفة شريفة وقلب أمين مؤتمن على أرواح الناس وصحتهم .. إنه الجشع وإنه الطمع الذي جاوز كل الحدود.

ويستجيب بعض الأطباء، وللأسف الشديد لمطالب مالكي المؤسسات الصحية، فيثقل كاهل المريض بفحوص طبية متعددة بشكل روتيني سواء استدعتها حالة المريض  أم لا، دون أدنى تفكير فيما يمثله ذلك من تعد صارخ على أخلاقيات المهنة، وما ينطوي عليه من فقدان الثقة بالأطباء وبطبهم وأخلاقياتهم.

هذا شأن بعض العاملين في القطاع الصحي الخاص ممن هم متفرغون للعمل فيه يملؤون ساحاته صباح مساء، فماذا عمن تفرغوا له جزئياً؟

يبدو أن الحال ليست أحسن، بل ربما أسوأ، ويبدو أن بيئة العمل في القطاع الخاص تفرض نوعاً من التعامل وطريقة في الأداء وأسلوباً في الممارسة تضغط على العاملين فيه فيستسلمون لإغراءاته دون تفكير في مدى انسجام ذلك مع أخلاقيات المهنة وسمعتها ..

ويزداد الأمر سوءاً على سوء إذا أضيف إلى ذلك ذلك التسابق المحموم لإغراء المرضى بالمراجعة في العيادات الخاصة، وحين يكون العمل في القطاع العام هو المدخل الرئيس لاستقطاب المرضى، وأحياناً بشكل ممجوج ترفضه الفطر السليمة والمهنية العالية ..

وبعد ..

فهل يمكن أن يقال أن العمل في القطاع الصحي الخاص مصدر لتلويث الطب والأطباء؟

وهل ينسحب ما قـلناه هنا على كل العاملين في القطاع الخاص؟ ولا شك أن الإجابة عن هذا السؤال: أن لا!

فليس كل العاملين في القطاع الخاص على هذه الشاكلة.. فهناك نماذج راقية للعاملين في هذا القطاع ما زالوا قدوة في الممارسة يحتذى حذوهم ويقتدى بهم.

إنني هنا لا أخاطب الجهات الرسمية المسؤولة عن الرقابة على هذا الجهاز.. ولا أخاطب أصحاب المؤسسات الصحية من غير الأطباء إن وجدوا .. إنني أخاطب ضمير الطبيب، وأخاطب إيمانه وشرف مهنته .. الطبيب الذي نذر نفسه أصلاً لخدمة المرضى وتخفيف آلامهم .. لا لشفط ما في جيوبهم وحسب، وكلي أمل أن نستجيب لنداء الضمير مرة أخرى .. وللذين لم يبيعوا ضميرهم للقطاع الخاص وإغراءاته ولم يستسلموا لبريقه .. لهؤلاء مني تحية خاصة .

 

والله من وراء القصد …

 

اترك رد