الشهر: يناير 2003

متصدع جنوب الرياض

في جنوب مدينة الرياض تتركز الكثافة السكانية الفعلية للمدينة، ليست فعلية في الأرقام فقط بل حتى في الوطنية والانتماء. ففي ظهرة البديعة والسويدي والدخل المحدود يشكل السعوديون الغالبية العظمى بعكس ما هو حاصل في وسط المدينة أو شمالها.

تصلي في مسجد في جنوب الرياض فتجد أن الشمغ الحمراء ترفرف في مساحة المسجد، تذكرك بمساجد الرياض القديمة الأصيلة.

في الأزقة والحارات والأسواق تلحظ تجول ساقين داخل ثوب تجاورهما في الغالب عصاء في جنوب الرياض بينما يعج الشمال بأزواج من العصي داخل بنطلون.

تلك مشاهدات قد لا تعكس رقماً احصائياً دقيقاً لتوزيع الكثافة السكانية في المدينة لكننا نعلم ويعلم المسؤولون جيداً أن أحياء جنوب الرياض هي الأحياء التي تضم الغالبية العظمى من المواطنين من أصحاب الدخل المحدود أو حتى الدخول الجيدة المتمسكة بالبقاء في تلك الأحياء بحكم قوة عامل الانتماء لديهم وعمقه سواء الحي أو الوطن.

على النقيض تماماً تأتي الخدمات لتكون مشرقة في الشمال باهتة في جنوب المدينة وكأنها خدمات تتباهى وتستعرض حول أرض المعارض وقرب مواقع المسؤولين!!

هذا القصور ليس وليد اليوم ولا يقتصر على خدمة دون أخرى فلعل الآراء في هذا الصدد متفقة بين القائمين على خدمات الصحة أو التعليم أو الخدمات البلدية وغيرها.. مما ولد انطباعا شبه عام يمثله رسام الكاريكاتير الزميل عبدالسلام الهليل عندما يختار شخصية النحيف لجنوب الرياض والسمين لشمال الرياض.

عندما يكون الفارق بين شطر من المدينة وآخر في تنظيم الطرق أو سعتها أو جمال الحدائق أو تواجد المطاعم الراقية والبنايات الشاهقة فقد يرجع هذا إلى طبيعة الأحياء وحداثة تخطيطها وفي ذلك عذر مقبول.

أما عندما يبرز الفارق في شكل خدمات صحية فيكون المستشفى الحكومي الوحيد في جنوب الرياض على الصورة التي عراها تحقيق جريدة الاقتصادية يوم أمس الأحد 23ذوالقعدة 1423هـ فإن الأمر يدعو إلى وقفة طويلة ليس من أجل بحث وضع الخدمات الصحية في المملكة فيميع الموضوع ولكن بالتركيز على خلفيات سوء توزيع الخدمات في المدينة الواحدة وعدم العدل في توزيع نقاط الخدمة ليس هذا وحسب بل تفاوت نوعية الخدمة، من مستشفيات متقدمة على أعلى المستويات تتركز في شطر من المدينة ومستشفى واحد في الشطر الآخر هو أقرب إلى مصدر العدوى والمرض منه إلى مستشفى!!

لقد أدرك الجميع هذا التفاوت الغريب في توزيع إرث الصحة إلى درجة جعلت عبارة (أول مستشفى أهلي في جنوب الرياض) شعاراً لأحد الإعلانات التجارية.

هذا اللوم والتساؤل ليس موجهاً فقط إلى وزارة الصحة، بل إلى جميع القطاعات الحكومية التي أنشأت مستشفيات كبرى في الرياض، لماذا لم يتم إنشاء توأم لأحد هذه المستشفيات في جنوب المدينة؟! مع العلم أنه وبحكم النسبة والتناسب اللذين تحدثنا عنهما في البداية فيما يخص عدد السكان من المواطنين فإن جنوب المدينة هو الشريان الرئيسي المغذي لتلك القطاعات بصغار المنسوبين!!

وزارة الصحة أنشأت مستشفى الأمير سلمان وهو المستشفى الذي تناوله تحقيق الاقتصادية على مساحة صفحتين، والواضح أنه يمثل قمة عجز الوزارة عن إدارة منشآتها، والعيب على ما يبدو ليس في الوزارة ولا الوزير ولا مدير الشؤون الصحية بالمنطقة الوسطى السر يكمن في سوء تقدير تكلفة الرعاية الصحية وحسابها على أساس قديم عندما كان المستشفى يسمى “صحية” ولعل أوضح دليل هو أن تبرعاً واحداً حوّل مستشفى الشميسي (مجمع الرياض الطبي) من “صحية” إلى مستشفى.

في إجابة للدكتور حمد المانع على سؤال في ذات التحقيق حول ما إذا كان هناك ميزانية لمشروع تطوير الإسعاف والعيادات الخارجية والعناية المركزة للمستشفى فرد قائلا هناك متبرع لتنفيذ المشروع.

سؤالي هو هل يمكن لخدمة صحية أن تدوم على أساس التبرع؟ ولماذا تعتمد صحة جنوب الرياض على التبرع والتبرع فقط؟! هل نحن بحاجة لمتصدع في جنوب الرياض لنلتفت إلى هذا الشطر المأهول بالسكان الأكثر إنتاجية؟!

الثمن البخس

عندما أرادت احدى كبريات شركات صناعة السيارات الأمريكية استغلال الشهرة والثقة التي يتمتع بها راف نادر صديق البيئة والمستهلك وزعيم دعاة حقوق المستهلكين في أمريكا، قدمت له عرضاً مغرياً مقابل مجرد التصوير مع احدى سيارات الشركة للدعاية لها، وكانت الشركة تعلم جيداً الثقة العظيمة التي يضعها المستهلك الأمريكي في اسم رالف نادر والتي بموجبها سيضع المستهلك ثقته العمياء في المنتج الذي يؤيده رالف نادر.

لكن رالف نفسه كان يدرك حجم تلك الثقة ومدى تأثيرها والأهم من ذلك انه كان يربو بنفسه أن يضع ثمناً يبيع به ثقة الناس لتاجر أياً كان، لذا فقد رفض عرض الملايين المغري بشدة خشية أن يؤدي ولو بعد عمر طويل الى الإضرار بالمستهلك والتدليس عليه وكان رالف آنذاك في ريعان شبابه ومقتبل عمره القابل للإغراء، لكنه كان يتمتع بشهرة واسعة أساسها حماسه لحماية المستهلك وتمسكه بمبادئه التي لم يقدرها بثمن.

تذكرت موقف رالف نادر وأنا أرى ان استغلال الناس لشهرتهم في توقيع عقود إعلانية وصل حداً غير متوقع سواء من حيث حجم العقود أو حجم الأشخاص!!.

يجمع الواحد حب الناس على مدى سنوات من الثقة والتواصل ثم لا يلبث أن يبيع ذلك الحب لمعلن عن سلعة أو خدمة قد لا تخلو من التدليس ان حاضراً أو مستقبلاً!!.

بالنسبة لنا كمجتمع سعودي فإن جعل الذات مادة إعلانية، سواء بالصوت أو الصورة أو التوقيع أمر لم يتم قبوله بسهولة بل ربما لم يحظ بالقبول التام حتى الآن، ربما لأننا مجتمع تربى على احترام الكلمة وتقدير المشورة فلا يتحدث إلا متأكداً ولا ينصح إلا متيقناً بصدق الشور، لقد ربانا الآباء والأجداد على أن الكلمة عقال واللسان حصان والشهادة لا تباع ومن واقع تمسكنا بتعاليم الدين فإننا لا نقبل التدليس ولا نشهد بما لا نوقن بصحته.

نجوم الرياضة في مجتمعنا تعرضوا لإغراءات كبيرة ولم يدخلوا عالم الإعلان إلا بتأن شديد وعقلانية.

نجوم الفن “مع أنني لا أؤيد الاعتداد بهم أو اعتبارهم مرجعية في أي سلوك” أيضاً لم يندفعوا لإغراءات الإعلان بسهولة، مع أنني أؤكد أنهم ليسوا قدوة ولا موضع مقارنة مشرفة.

وإذا كان الأمر كذلك مع أهل الرياضة وأهل الفن فإن من باب أولى أن يكون مع أهل العلم والأكاديمية والشهرة والقدوة الحسنة، فحري بهؤلاء النخبة أن يترفعوا عن أن يضعوا من أسمائهم أو صورهم أو تواقيعهم أداة إعلانية أو وسيلة جذب لمنتج دون غيره أو متجر دون آخر أو خدمة دون أخرى أو شركة او مؤسسة.

فالشهرة التي بنيت على أساس الثقة في العلم أو الحكمة أو القول أو العمل لا تقدر بثمن ولا يجب أن تستهلك مقابل ثمن بخس دنيوي والله أعلم.

تعريف الرشوة وطنياً

التوجه الجاد لمحاربة الرشوة كمشكلة وطنية يستوجب أن يساهم كل منا في هذه المعركة مع سلوك لم يكن يمارس في مجتمعنا بأي صورة من الصور بل كان مجرد الحديث عنه يعتبر مقززاً، مهيناً لا يحتمل سماعه تماماً.

يصعب تحديد المتغيرات التي أدت الى دخول الرشوة الى قاموس التعاملات في مجتمعنا ولكننا لابد ان نعترف ان ذلك العنصر القذر المقزز الذي لا تقبله شيمة ولا ذرة شرف قد اصبح دخيلاً علينا، بل دخل من ابواب واسعة!!

لكي تحارب شيئاً ما، أي شيء لابد أن تحدد له تعريفاً “اعرفء عدوك”، ولذا فإنني أعتقد أننا لكي نحارب الرشوة حرباً جادة لابد أن نضع للرشوة تعريفنا الخاص بنا لأنه وكما يبدو فإن لنا خصوصيات كثيرة، وطابعاً خاصاأ يختلف عن كثيرين غيرنا ويدخل من ضمنه خصوصية تعريف الرشوة في مجتمعنا.

اسمّه ما شئت، أسمّه اشكالاً أو أنواعاً أو طرقاً وإن كنت أفضل أن أسميه تعريفاً شاملاً للرشوة في المجتمع السعودي.

والتعريف يفترض أن يركز على أكثر الصور رواجاً وخطورة وينطلق منها. ففي بعض المجتمعات تكون أكثر الصور رواجاً هي صورة سلم نقوداً واستلم تسهيلات وهي الصورة التقليدية التي يسهل كشفها ومحاربتها، لكنها بالتأكيد ليست الصورة السائدة لدينا وليست الوحيدة إن وجدت ولا الأهم ولا الأخطر.

إذاً لابد أن نبحث عن التعريف الأقرب للرواج في معاناتنا مع الرشوة، هل هو التسهيل بالمشاركة؟! بمعنى أدخلني شريكاً أدخلك من كل الأبواب.

أم هو التسهيل بمنح الاسم؟!

أم هو مفهوم رشوة شد الحبل، أي بمعنى شد لي وأقطع لك.

صور عديدة ليس من بينها صورة سلم واستلم ونحتاج لكي نعرف الرشوة أن ندرس هذه الصور بشفافية ونعترف بوجودها مثلما اعترفنا بوجود الرشوة في تعريفها الكلاسيكي ومثلما اعترفنا بوجود الفقر بصورته الخاصة بنا. ثم إذا اتفقنا على التعريف عندها فقط نقرر ما إذا كنا جادين في شن الحرب على الرشوة أم نتركها على “طمام المرحوم”.

حقب الفقاقيع

أحسب أننا أصبحنا أكثر توجهاً للمظاهر والظهور من أي وقت مضى، وهذا مؤشر إلى تناقص الجوهر!!

كلما زاد الحرص على المظاهر فإنه إنذار مؤكد بندرة الجواهر.. وكلما غلب التوجه للظهور فإن في ذلك دليلاً على هشاشة البنية، فلا يطفو للسطح إلا المواد الخفيفة (فلين، خشب، وقشور)، حتى الجثة لا تطفو على سطح الماء إلا بعد أن تتعفن وتنتفخ!!، قبل ذلك وعندما تكون محافظة على تكوينها البشري وجوهرها فإنها تبقى في القاع.

الفقاقيع هي الأخرى تطفو إلى السطح بسرعة فائقة تفوق أي شيء آخر له وزن ثم ما تلبث أن تنفجر وتختفي.

في تاريخنا مع المظاهر والظهور مررنا بحقب عديدة “إن صح التعبير وجاز استعارة الحقبة كمرحلة”.

حقبة التباهي بالسيارات فكان هدير الثماني والاثني عشر “سلندراً” يعلن عن مرور فقاعة!! في شارع ضيق، وكان الطريق بمبانيه وأرصفته يرتجف من شدة التنافس بين “جاكوار” و”فراري” و”بنز”، لكن “الفولكس واجن” والعراوي وحتى الدباب كان سيجد نفس المساحة للسير بسرعة أقل ربما لأنه كان يحمل فكراً أثقل!!

ثم جاءت حقبة التباهي بالخدم والحشم وحاملة الشنطة وحامل البشت، لكن تأشيرات الاستقدام وزهد أجر العمالة الآسيوية كان كفيلاً بإنهاء هذه الحقبة وبسرعة وتقليل فرص التميز.

بعدها جاء السفر عنصراً لادعاء التميز وللأسف فإننا في سفر التنافس لم نحقق واحدة من فوائد السفرالسبع لأن أياً منها لم تكن الهدف!! كان الهدف “رحنا جنيف”، “رحنا لندن”، “كنا في باريس” لم يكونوا يسافرون إلى “كوبنهاغن” ربما لصعوبة نطق الاسم مما يلغي فرصة التباهي.

ثم أصبح الاسمنت والأدوار وسيلة تحد لا بأس بها فهي على الأقل تضيف فناً عمرانياً ومؤشر نهضة اسمنتية.

واليوم سيطر الظهور كثيراً على المظهر فأصبح الظهور الإعلامي هو مؤشر سباق المظاهر.

أصبحنا ظاهرة إعلانية في قصائدنا وشكرنا وصدقاتنا وتهانينا وأفراحنا وأتراحنا وكل ما أخشاه بأن تتحول الفضائيات العربية من الإعلانات التجارية إلى إعلانات التهاني وشعر الثناء وعبارات الإطراء والشكر على زيارة والتعبير عن امتنان.

الغريب أن حقب التنافس تلك لم تشهد تنافساً على تحصيل علمي أو نبوغ فكري أو اختراع بل ربما شهدت مثل هذا التنافس لكن كونه من العيار الثقيل لم يكن يطفو إلى السطح، فلم يكن مجرد فقاعة أو فلين!!

اللجنة الموبّخة

عاتب معالي وزير التجارة أعضاء اللجنة الدائمة لسلامة الأغذية المشكلة بموجب الأمر السامي رقم 1916/7/م وتاريخ 1416/11/11هـ وذلك لأن اللجنة تأخرت في إصدار التوصيات بشأن عدة مواضيع هامة ومن أهم هذه المواضيع تواجد مادة “الأكريلاميدا” المسرطنة المتواجدة بالأغذية المحمصة والمحمرة والتي سبق ان أعلن علماء سويديون في نهاية العام الماضي انها تتواجد في بعض الأغذية مثل القهوة المحمصة والبطاطس المقرمشة.

وقد جاء العتاب الحامل للتوبيخ بعد أن مرت ثلاثة أشهر على إحالة الموضوع للجنة الدائمة للأغذية ولم تتخذ توصية قاطعة فيه إلا انها أوصت منذ ثلاثة أشهر ماضية بتشكيل لجنة من وزارة الصحة والتجارة والشؤون البلدية والقروية والهيئة العربية للمواصفات والمقاييس لدراسة هذا الموضوع كتابيا وميدانيا.

وقد أفادت مصادر جريدة الجزيرة التي نشرت الخبر يوم الاثنين الماضي 1423/11/10هـ ان تلك اللجنة المصغرة لم تجتمع في الأصل لرفع ما توصلت إليه اللجنة الدائمة لمتابعة سلامة الأغذية لإصدار التوصية المناسبة بشأنها.

أعجب كيف يتوقع وزير التجارة وغيره أن يعالج هذا الموضوع عن طريق إحالته إلى لجنة؟!.

هل بلغنا هذه الدرجة من التطور الصحي في مجال التشخيص والعلاج ولا نزال نعتقد ان التأكد من كون مادة أو عدة مواد غذائية مسرطنة أم مأمونة يمكن أن يتم عن طريق لجنة دائمة ليستغرق الموضوع ثلاثة أشهر يحال بعدها إلى لجنة مصغرة من عدة جهات ولا تجتمع.

هل يختلف بطاطسنا عن بطاطس العالم المقرمش؟! وهل تختلف قهوتنا عن قهوة السويد المحمصة “نستورد كل أنواع القهوة” بل لنفرض أن ثمة اختلافاً، هل يستدعي تأييد نتائج بحث علمي متخصص أو التشكيك فيه إحالته إلى لجنة؟!.

ان تحذيراً صدر مبنياً على بحث أو دراسة أجراها فريق مختص في بلد متقدم يجدر أن يبدأ التفاعل معه بإيقاف ترويج المادة أو على أقل تقدير التحذير منها أخذاً في الاعتبار الاحتمال الكبير لصحة نتائج الدراسة.

والخطوة التالية سهلة لا تستدعي ولا تحتمل انتظار اجتماع لجنة ثم اتخاذها قراراً وطباعة محضر وانتظار التوقيع عليه ثم رفعه، هذا إذا اجتمعت اللجنة ووجدت الوقت لادراج هذا الأمر في أجندة الاجتماع “عادة لا يسمح وقت اللجان لمناقشة نصف جدول الاجتماع لأن كثيراً من الوقت يعتبره الأعضاء حقاً من حقوقهم في استعراض قدراتهم على الكلام وفرض الآراء… إلخ”.

كل ما يفترض ان يحدث كخطوة ثانية هو الطلب مباشرة من مختص في هذا الفرع الدقيق من العلم إجراء مراجعة سريعة للدراسة وتحكيمها لمعرفة امكانية الاعتماد على توصياتها ثم اجراء بحث خاص على المادة المشكوك فيها، علماً أن إثبات ان المادة مسرطنة أم لا أمر يستغرق وقتاً طويلاً قد يصل إلى سنة وهذا الوقت أمضاه فريق العلماء من السويد ومع عظيم الاحترام للوزير واللجنة الموبخة فإن هذه اللجنة لو عقدت اجتماعا متواصلا لمدة سنة فلن تتمكن من الحكم على صحة نتائج الدراسة من عدمها لأن ثمة فرقاً شاسعاً بين البحث والدراسة وبين العبث والفراسة.

وأخيراً ما كان للوزير أن يوبخ لأنه ما كان للموضوع أن يقتل بإحالته إلى لجنة.

وما ذكرته أعلاه لا ينفي أهمية تشكيل تلك اللجنة الدائمة لممارسة أدوارها الممكنة خاصة تلك المعنية برسم الاستراتيجيات والنظم والاجراءات أو استشعار مخاطر بعض الممارسات الخاطئة وغير ذلك من الأمور التي تحتاج إلى الآراء والإجماع أكثر من العمل الميداني.

سلطة المظاهر

يبرز الاعتماد على المظهر عندما تفتقد القدرة على اختبار الجوهر، وذلك نتيجة لضعف مؤهلات المخولين بالتقييم سواء كانوا على هرم المسؤولية الإدارية أو ضمن مواقع في تشكيل الهرم المعني بالتقييم أو في المجتمع بصفة عامة.

كثيرون استغلوا اعتمادنا على المظهر في تحقيق مكاسب وظيفية واجتماعية ونفوذ بل وتسلط وممارسة القوة ضد الآخرين بناء على فروقات شكلية لا تحتاج إلا إلى حفنة نقود أو زمن أو هرمون أو مسمى أو لقب مع توفر استعداد اجتماعي شبه عام لمنح فرصة النفوذ لتلك الخاصية الشكلية غير المبنية على أدنى مبرر جوهري.

الانخداع بالمظهر تزداد فرص حدوثه كلما زاد في المجتمع الاهتمام بالشكليات، بينما في المجتمعات التي لا تعير اهتماماً يذكر للشكل يستحيل أن تحقق نفوذاً أو سلطة أو مكسباً لمجرد قدرتك على التلون أو “الحرباوية” أو تقمص شكل فئة معينة لأن الفئوية لا مكان لها في تحديد النفوذ.

بمعنى آخر فإن ارتداء بنطال “جينز” لا يقلل مطلقاً من فرص احترام الشخص على انه مسؤول كبير أو صاحب نفوذ وسلطة مثلما أن ارتداء “بدلة” ثلاث قطع فاخرة لا يعني حصول الجسد داخلها على أدنى مميز أو استثناء أو حتى احترام خاص إلى أن يثبت أنه جدير به بناء على واقعه وهو عارٍ.

في المقابل فإننا نعطي للمظهر دوراً رئيساً في إصدار حكمنا الأولى على الشخص وهو طبع متأصل منذ أن مد أبو حنيفة رجله.

لو حدث طارئ يجعل مسؤولاً يقطع ممارسة الجري ويحضر إلى مقر عمله مرتدياً بدلة الرياضة، مثلما حدث ذات مرة لمسؤول لا تنقصه الشهرة، فإنه يجد صعوبة بالغة في الدخول ناهيك عن فرض احترامه ونفوذه المعتاد عندما كان يتجول بالبشت!!.

في المقابل فإن البشت كان ولا زال تصريح دخول من الفئة “أ” لكل دائرة ومكتب حتى أن مدير المكتب وهو بواب أنيق يعترف أن قمة الحرج والتردد تحدث أمام الجسد المغلف ببشت!!.

وأعرف حامل بكالوريوس صنف وظيفياً ضمن حملة الدكتوراه لأن من حوله كانوا ممن ينادون خريج أي كلية صحية بلقب دكتور وقد أحيل للتقاعد دون أن يكتشف جهازه أنه مجرد حامل للبكالوريوس.

وهرمونياً قد نحكم على الأمرد بأنه مثقف لأن حلق الشنب واللحية صفة ارتبطت شكلاً بفئة تدعي الثقافة.

وهرمونياً، زمنياً، فإن خروج الشعر بغزارة لا يستغرق أكثر من سجن ثلاثة أشهر ومع ذلك فإن نموه قد يمنح الشخص سلطة ونفوذاً لا يشق لهما غبار.

وأخيراً فإنه يكفيك أن تستعير سيارة فخمة لتدخل من كل البوابات دون معارضة في حين قد يمنع برفسور من دخول مواقف الجامعة لمجرد أنه اضطر للحضور في “وانيت”.

أرجو أن نكون بفعل تراكم الخبرات والتجارب والزمن قد تعلمنا أن المظهر ليس أساساً للحكم على الأشخاص وأنه يمكن أن يستغل استغلالاً خطيراً وأن نكون أكثر حرصاً على طلب ما يثبت جوهر الشخص قبل الحكم عليه سلباً أو إيجاباً.

النشالون الثلاثة

سوف أروي لكم المواقف وأترك لكم ولجميع الجهات المعنية أمر التفكير في الحلول واتخاذ الخطوات الاحترازية والعقوبات الرادعة لمنع تفشي هذه الظاهرة التي يجسد الموقف أحد أمثلتها لكنه بالتأكيد ليس المثال الوحيد.

بعد صلاة الجمعة في أحد مساجد مدينة الرياض الكبيرة حيث يعرض عدد كبيرمن الباعة بضاعاتهم المختلفة حول المسجد ويتم التسوق في وضع اعتبره جيداً بل محبوباً لأنني من محبي أسواق ما بعد صلاة الجمعة وأحسبها تذكرنا بأسواق البيع في القرى بعد الصلاة فيما يسمى بالمجلس في القرية (ربما لأنه يحتوي على كراسي لجلوس كبار السن مبنية من الطين تحيط بالسوق الصغير من جهاته الأربع).

أقول في ذلك السوق تم القبض في أقل من ساعة على ثلاثة نشالين بحوزة كل منهم عدد من المحافظ كاملة بكل محتوياتها من نقود وبطاقات صرف آلي وبطاقات أحوال ورخص قيادة وخلافها.

الموقف لم يخل من الطرافة، فبعد أن أودع رجل الشرطة النشالين في المقعد الخلفي للسيارة خرج ومعه كم هائل من المحافظ وبدأ في قراءة أسماء أصحابها من واقع البطاقات (فلان الفلاني) والرجل يرد (حاضر) ثم يخترق الزحام حول سيارة الشرطة لاستلام محفظته).

ما حدث مضحك مبكي، المضحك، توزيع المحافظ وتفاعل الناس مع عملية التوزيع بتلاوة الأسماء وما كان يحدث تلك اللحظة فمن هول عدد المحافظ كان كل منا يتلمس جيوبه ليتأكد من وجود محفظته بل ان أحد “الصحاح” كان يصرخ في من حوله “اسكت نسمع لا يعد أسمى”، رد عليه “ياخي فتش جيوبك أسرع!!”.. أما المبكي فهو أن يستشري النشل في مجتمعنا الذي صممت جيوب ثيابه على أساس الأمن الدائم، وعدم التفكير في أمر السرقة كمشكلة، تماماً كما هي بيوتنا في السابق حيث مفتاح الخشب والمجرى الذي يمكن فتحه بمجرد ادخال الذراع خلفه، وجدران السطوح المتلاصقة المنخفضة إلى درجة سماع شخير النائمين في السطوح ناهيك عن آهاتهم!!، “صرخ احدهم بصهره المجاور ذات ليلة قائلاً تكفى ارفق يا بوفلان!!”.

من الملاحظات المبكية أيضاً في موقف النشل ذلك عدم تجاوب المنشولين مع ضابط الشرطة بمرافقته لدائرة الشرطة لتحرير محضر شكوى، فكل من استعاد محفظته قبلها وذهب، ولو كنت مكان ذلك الضابط لما أعدت المحافظ إلا في مركز الشرطة ولو كنت صاحب قرار لرفعت من مستوى عقوبة السرقة إلى أقصى حد رادع لأنها وعلى ما يبدو أصبحت مشكلة وطنية.ولو كنت مكانكم مواطنين عاديين أو مسؤولين لفكرت في أسباب انتشارها والحلول لهذا الموقف المضحك المبكي.

أغرب شكر!!

يا لهذا القطاع الخاص، كم هو خاص جداً، خاص في ذكائه وفي اكتشافاته وفي معايشته للظروف والمتغيرات وتكيفه حتى مع طبع المسئولين ورغباتهم!!

هذا القطاع الخاص لم يكتف بدراسة ميول ورغبات وطباع المستهلك ويستغل الإعلان لمخاطبة احتياجاتهم ومداعبة مشاعرهم وإشباع نهمهم وأهواء نفوسهم وحسب، بل فعل الشيء نفسه مع المسئولين، بل لعله أصبح يوظف الإعلان لإشباع رغبات المسئول أكثر بكثير من الشريحة المستهدفة من العملاء، وكأنه اكتشف وبسرعة توجه البعض ورغبتهم الجارفة في التواجد إعلامياً!!

قد يعتقد البعض أن شكر وزير أو نائبه أو هما معاً على اعتماد افتتاح منشأة تجارية. أمر لا يضر!!، لكن الواقع انه مؤشر خطير جداً وتوجه ينم عن تخلف يعكس صورة سيئة عن المجتمع، قد تكون صورة ظالمة غير حقيقية من تلك الصور الكثيرة التي يرسمها البعض فتسيء للكل.

الواقع أننا نسير في الاتجاه الصحيح نحو تقليص البيروقراطية والمركزية في كثير من اجراءاتنا بما يوحي أن الوفاء بمتطلبات الجودة هو المحك الحقيقي لاعتماد دخول القطاع الخاص في معترك التعليم أو الصحة أو غيرهما من المسئوليات التي كانت الدولة تضطلع بها وحيدة دون مقابل.

وأن تلجأ منشأة تعليمية تجارية إلى الإعلان لكافة الناس انها تشكر وزير المعارف ونائبه على اعتماد افتتاحها فإن في ذلك تصويراً للناس في الخارج قبل الداخل ان افتتاح معهد في بلادنا أمرٌ فيه الكثير من العوائق البيروقراطية التي تستوجب الشكر وتجعله مديناً طوال عمره المديد إن شاء الله لمعالي الوزير ونائبه.

وقد يصور الإعلان للناس في الخارج أننا بلغنا مبلغاً من المداهنة يجعل مثل هذا الإعلان مطلباً أو فرض عين على كل راغب في ترخيص بصرف النظر عن الوفاء بمتطلبات الجودة والكفاءة “وهو أمر نحن منه براء”.

وقد يعتقد آخر ان ثمة صعوبات تكمن في اعتراض من جهات منح الترخيص نتيجة عدم اكتمال المتطلبات ذللها المسئول فاستحق عليها الشكر علناً وهذا فيه إحباط لكل من اجتهد وطالب بتطبيق النظام.

إضافة إلى ما ذكر فإن هذا السلوك يشيع روح المداهنة العلنية الممقوتة وقد يجعل منها على المدى الطويل عادة سيئة تضاف إلى عادات دخيلة كنا نأمل في أن تختفي في عصر الشفافية والمصارحة وانكماش الحواجز والفروقات وبروز معطيات زوال التكلف.

تخيل لو أن كل تصريح لمصنع أو ترخيص لمستشفى أو منح إذن لمكتب محاسبة يقدم صاحبه شكراً معلناً في الصحف للوزير المختص أو وكلاء الوزارة، كيف ستكون حال مجتمعنا؟! بل كيف ستبدو حالنا لغيرنا؟!

من هذا المنطلق أرى ان هذا الباب ما كان له أن يفتح وعندما فتح كان من المفترض ان يقابل باعتراض المشكور قبل غيره.ً

مساجد الفقراء

المساجد بقع طاهرة يتوجه منها العبد إلى ربه بالصلاة والدعاء. ويفترض أن تكون المساجد على درجة واحدة “درجة عظيمة” من النظافة والطهارة وتهيئة الأجواء المناسبة من تكييف وإضاءة وحسن تنسيق وتنظيم في المداخل إلى جانب تصميم معماري منسق يعكس أهمية هذا المكان بصرف النظر عن الحي الذي أقيم فيه.

الملاحظ أننا نبدع في تصميم وبناء وتأثيث المساجد في الأحياء الجديدة أو بصورة أكثر شفافية في الأحياء الغنية فتجد المسجد روعة في الجمال والسعة والإضاءة الطبيعية والكهربائية، تتوسطه ثريا تشغل ثلث مساحة سقفه وأخريات يتقاسمن الثلثين الباقيين بنظم جميل ومتناسق. وللمسجد مداخل تضمن حمايته من الأتربة والأوساخ. أي اننا نقوم بالواجب أو جزء منه نحو إضفاء لمسات الابداع والجمال في مساجد تلك الأحياء وهي في الغالب مساجد تكفل ببنائها فاعل خير موسر يبحث عن الأجر والثواب أو عدد من الموسرين.

في الأحياء القديمة أو الشعبية، أو ما يسمى بعد الاعتراف بالفقر أحياء الفقراء، يفترض أن يكون المسجد بنفس القدر من النظافة والجمال وحسن التصميم وجودة البناء لأنه يبقى مكاناً يتوجه منه العبد إلى ربه ويفترض أن تنطبق عليه معايير ثابتة ومواصفات لا تقل مطلقاً عن المسجد في الأحياء الأخرى، خاصة وأن المساجد كلها تتبع لوزارة واحدة هي وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد وتهتم بها لجنة عليا واحدة هي اللجنة العليا لبرنامج العناية بالمساجد وبالتالي فإن الاختلاف في شكل وهيئة المنازل أو تنظيم وتنسيق الأحياء بين الأحياء الشعبية وتلك الحديثة لا يمنع على الاطلاق أن تكون المساجد على درجة واحدة في الشكل والهيئة والتنظيم والتنسيق والنظافة والجمال ويجب أن لا ينعكس هذا الاختلاف بين حي وآخر في صورة اختلاف مساجد الأحياء لأن العباد سواسية ويجب أن يكونوا سواسية في تهيئة مكان العبادة حتى ولو اختلفوا في الدخل والرصيد الدنيوي فإن أكرمهم عند الله اتقاهم.

وأعتقد جازماً ان وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد يفترض أن توظف حرص كثير من الموسرين في هذا البلد وتسابقهم إلى بناء مساجد غاية في الروعة والجمال توظفه في شكل عناية بمساجد الأحياء الشعبية بل إعادة لبنائها بشكل لا يقل جمالاً وروعة ونظافة عن مسجد الأحياء الحديثة في شمال الرياض مثلاً وإن كان يقل مساحة. بل يجب أن تستغل الوزارة الوفر الذي تحقق جراء إسهام فاعلي الخير في بناء المساجد نيابة عنها وتحوله إلى إعادة إعمار المساجد القديمة والعناية بها.

إنك حينما تدخل حياً فقيراً ويدخل وقت الصلاة وأنت فيه وتدخل المسجد تلمس قصوراً واضحاً في جوانب كثيرة فالغبار يتراكم بين طبقات السجاد (الوزارة كريمة في السجاد حتى أصبح طبقات) وهذا فيه خطورة شديدة على مرضى الحساسية. ومداخل المسجد غير محكمة الغلق فلا تمنع الأتربة والغبار وأجهزة التكييف قديمة ومزعجة والجدران أرهق الزمن شكلها ولونها وبعض مساجد أسواق الخضار أو المناطق الصناعية حيث الورش تلحظ عدم نظافتها ونظراً لقرب مخالع الأحذية من السجاد وغياب التنظيف الدوري للسجاد فإن بقع الطين والزيت والسواد تغطي مواضع السجود.

كل تلك منغصات لأجواء العبادة وغير مشجعة على البقاء في المسجد وأداء النوافل ناهيك عن الأهم وهو أنها توحي بأن ثمة فرقاً شاسعاً لا يفترض وجوده في هذا الجانب فحتى فروع البنوك (أعز الله المسجد) لا تختلف في ديكورها وجمالها بين حي شعبي وآخر حديث.

لا نحلم بمساجد نظيفة في الأحياء الشعبية وحسب بل مساجد مطابقة لتلك في الأحياء الأخرى ولكن بمساحة تتناسب مع عدد المصلين. نريد للمسجد أن يكون لؤلؤة تشع جمالاً حتى لو كان يقع بين منازل رثة في حي متواضع.