الكاتب: محمد الأحيدب

«فضفاض» الجهل أكثر حرقا

انتهت الفتاة العروس من ملء الفراغ بين جسدها وفستان الفرح بكمية كبيرة من رذاذ ما يسمى بفضفاض الملابس، وهي مادة طيارة تمنع الالتصاق الكهرومغناطيسي بين القماش والجسد، وما أن انتهت العروس من تعبئة الفراغ بالبخاخ اعتلت مدخنة جمر لتبخر جسدها بالعود! فتتمثل لها المقولة الشعبية (ما بعد العود قعود)، وتتحول إلى شعلة ويحترق فستانها وجسدها!.

بعد الحادثة أو الرواية المنتشرة في مواقع التواصل الاجتماعي بأيام ينتشر مقطع شباب فضفاض الملابس الشهير الذين اشتعلت سيارتهم من الداخل بعد أن تسرب الرذاذ داخل السيارة المغلقة وقرر أحدهم إشعال سيجارته بقداحة غاز ليصدر أقوى تحذير بخطورة التدخين على المدخن ومن حوله فتطير السيجارة والولاعة وتتحول كبينة المركبة بمن فيها إلى كتلة نار!.

أعلم أن الحوادث لا تحتمل السخرية ولا التنكيت، لكن ما يدعو للسخرية هي حالنا مع التوعية بخطر أشياء تباع لدينا في كل مكان ولا ينشر وكلاؤها وتجارها إلا إعلانات تخفيضاتها دون أي مساهمة بالتحذير من خطورة المواد التي تحتويها!، وأنها قابلة للاشتعال بل الانفجار بل لا توجد عليها عبارات تحذير! ولا أحد يطالبهم بذلك!.

كثير من الشباب والفتيات يجهلون مكونات ما يستخدمون ويعكسون تماما مقولة (الإنسان عدو ما يجهل) و(يصادقون ويصدقون) كثيرا مما يستخدمون فيترك الشباب علب بخاخات داخل سياراتهم في الشمس وفي درجة حرارة تصل للخمسين ثم نقول (حريق مجهول السبب)، وتترك الفتاة مساحيق لا تعرف محتواها على وجهها ساعات طويلة وفي ظروف مختلفة ثم نقول (حبوب وبثور بل وأورام سرطانية مجهولة السبب).

البخاخات والمساحيق ليست الوحيدة فلدينا سوائل المنظفات والمعقمات ومزيلات البقع متواجدة في المنازل (بالجوالين) والأم مشغولة (بالجوال) والطفل (يجول) والجهل بمكوناته (يتجول) في مجتمعنا والرقيب كسول لا يقوم بـ(جولات)!.

ليس دفاعاً عن مستشفى الحرس

القضايا الوطنية لا تحتمل المجاملة كما أنها لا تحتمل الاتهام جزافا، والحقائق العلمية لا تقبل التزييف والحقيقة العلمية تقول إن المستشفى وعاء للمرض لعلاجه أو تخفيف أعراضه إذا استحال العلاج، أما مكافحة انتشار الأوبئة والأمراض المعدية على مستوى وطني فهي مسؤولية وزارة الصحة مثلما أنها على مستوى دولي من مهام منظمة الصحة العالمية.
ليس ذنب مستشفى الملك فهد بالحرس الوطني أنه فتح أبواب الطوارئ فيه مشرعة لاستقبال جميع حالات الحوادث والإصابات والأمراض والأعراض في مدينة الرياض دون قيد أو شرط، بينما وضعت المستشفيات الخاصة حراسا وحاسبات تمنع دخول الحالة الإسعافية والحوادث إلا بعد الدفع أو ضمان الدفع!.
بل ليس ذنب مدينة الملك عبدالعزيز الطبية بالحرس الوطني بكافة مراكزها المتطورة في علاج القلب وزراعة الأعضاء ومركز علاج الحروق والعناية المركزة الواسعة متعددة التخصصات للقلب والإصابات والأطفال والمواليد ومركز عمليات اليوم الواحد، ليس ذنبها أنها فتحت صدرا وطنيا إنسانيا رحبا لاستقبال كل إنسان محتاج لتقنياتها المتقدمة وتخصصاتها النادرة.
الذنب في انتشار مرض الكورونا يعود لطريقة التعامل معه من قبل وزارة الصحة منذ اكتشاف أول حالة إيجابية في شوال عام ١٤٣٣هـ، وما تلاها من حالات فقد مارست وكالة الوزارة للطب الوقائي إهمالا وتهاونا وعدم جدية بل جهلا مدقعا في البداية، وتجاهلت الوزارة نصائح العلماء والمتخصصين في الأمراض المعدية من المخلصين والصريحين، ثم بعد أن تسارعت الحالات وخرجت عن السيطرة كابرت الوزارة واعتزت بالإثم ومارست عدم الشفافية والمغالطة في الأرقام حتى انتشر المرض كماء تحت تبن، ولا أقول نار في هشيم لأنه لم يكن واضحا ولا موضحا ولا مرئيا.
مستشفى الحرس الوطني استقبل حالات إسعافية حاملة للمرض وهذا دليل أنه يستقبل الحالات الإسعافية بدءا من ارتفاع الحرارة وأعراض الحمى إلى حالات الحوادث المميتة فانتقلت العدوى إلى بعض أقسامه بل بعض موظفيه، ولعل من بوادر إثبات المسؤولية على تعتيم وزارة الصحة آنذاك أن أول من أصيب بالعدوى كان موظفا إداريا يؤدي مهمته في توجيه مريض لديه ارتفاع حرارة! فهل لو أعلنت وزارة الصحة حالة الحذر والخطر مبكرا سيجرؤ إداري على الاقتراب من مريض؟!.
هل لو انتشر المرض في مستشفى خاص مخلص (وما أقلهم) سنحاسب مالك المستشفى أو مديره لأنه استقبل مصابا بأعراض زكام؟!.
أوافق من يقول بالإجراءات الوقائية لمنع مزيد من انتشار المرض في المستشفى، ولكن أعطني طريقة مقرة علميا وبحثيا لمنع الانتشار السريع!، وتساءل لماذا مرت أربع سنوات منذ ظهور المرض سنة ١٤٣٣هـ ولم تجر أبحاث لمنع الانتشار؟!
جدير بمن يلوم مستشفى الحرس أن يقف معه ويسانده ويقوم بمهامه الوطنية العاجلة عن طريق فتح بوابات المستشفيات الأخرى والمستشفيات الجامعية والخاصة لاستقبال جبري للحالات الأخرى والتدخلات الجراحية والعلاجية للأمراض غير الكورونا ومنح مستشفى الحرس نفسا لمحاصرة المرض والحد من انتشاره.

كهرب وماء وموت

على طريقة مقررات المرحلة الابتدائية، أمعن النظر في قضية مصرع الشاب أنور الكعبي (19 عاما) أثر صعقة كهربائية في حديقة عامة بجدة أثناء ممارسته لعبة كرة القدم، التي ظلت أمانة جدة تتقاذف مسؤوليتها وإحدى شركات الكهرباء الخاصة في أروقة المحكمة العامة وديوان المظالم على مدى أكثر من ثلاث سنوات، فيما بقي والد أنور محتارا في تحديد خصمه المتسبب في وفاة ابنه.

وفي كثير من جلسات هذه القضية بالمحكمة العامة في جدة، تغيب ممثلا الأمانة وشركة الكهرباء الخاصة، فيما لم تصل بعض ملفات وقائع الحادثة التي طالبت المحكمة بإحضارها.

وقررت تأجيل القضية عدة مرات، وأبدى والد الشاب المتوفى تذمره من التسويف الذي يجده من الجهات المتهمة ومحاولة الأمانة التنصل من المسؤولية أحيانا وغيابها عن الجلسات أحيانا أخرى، فيما اتبعت شركة الكهرباء الخاصة الأسلوب ذاته بغيابها عن الجلسات، وكل منهما تلقي باللائمة على الطرف الآخر كسبا لمزيد من الوقت، مستفيدتين من عدم وجود محام أو قانوني يقدم الاستشارة الصحيحة لوالد الشاب الضحية.

هذه القضية التي استمرت قرابة أربع سنوات تشرح لنا واقعا مريرا في جوانب عدة، ولعل الشاب أنور، رحمه الله وثبت والديه وعوضهما في مصابهما خيرا، قدم بعد وفاته للوطن خدمة لكشف جوانب قصور عدة، فرغم وضوح الإهمال الخطر بترك أسلاك كهربية مكشوفة في حديقة عامة ترش بالماء! ويرتادها الأطفال والشباب والكبار، ورغم حدوث قتل لنفس بشرية بريئة، إلا أن المسؤولية كان يتم تقاذفها والتسويف يحدث وعدم حضور المحكمة طريقة غير أخلاقية للتسويف والمماطلة! فكيف بالقضايا الأكثر غموضا التي يشتكي منها المواطن؟!.

تلك نقطة مستفادة من القضية، لكن الملاحظة التي لا تقل أهمية، هي في عقود الجهات الحكومية مع الشركات والمقاولين وتركها لثغرات وفجوات خطيرة تتيح الهروب من المسؤولية!، وتشير إلى تحيز وتخاذل وتساهل مقصود من قبل الجهات القانونية التي تصيغ العقود فلولا ذلك التخاذل لما صعب تحميل الشركة المكلفة بالخدمة مسؤولية تعريض أرواح الناس للخطر، وفي ذات الوقت تعريض المتضرر لضياع حقه!!، وهذه الملاحظة يجدر بنا التنبه لها في عقود الشركات مع الجهات الحكومية واعتبارها منطلقا للبحث عن طرف خيط لفساد.

هذا التخاذل وحده كفيل بإدانة أمانة جدة في ذلك اليوم، وقس عليها كثير جدا من الدوائر التي تحرج الجهة الحكومية لمصلحة تاجر والحر تكفيه الإشارة.


الوزراء ودروس من كورونا

أهم الدروس المستفادة من كورونا وما سبقها من الأمراض والأوبئة أن المال وحده لا يكفي للتعامل مع المرض المعدي أو الوباء، كما أن المال ليس عائقا ولا حجة دوما في التعاطي مع الوباء!.
الصدق والشفافية والإخلاص في العمل والواقعية في التعاطي مع المرض وسبل انتشاره والاعتماد على الدراسات والأبحاث من أهم عناصر التعامل مع الوباء والأمراض المعدية، ولدينا دروس كثيرة في هذا الصدد يجدر بنا استعراضها والاستفادة منها.
في فترة وزارة الدكتور أسامة بن عبدالمجيد شبكشي لوزارة الصحة كانت الأوضاع المالية في أضعف حالاتها بسبب حرب الخليج والأزمات الاقتصادية التي عاناها العالم أجمع في تلك الفترة والمملكة جزء من هذا العالم عانت هي الأخرى من عنصري الحرب والوضع الاقتصادي العالمي، ومع ذلك استطاعت وزارة الصحة آنذاك وفي وقت قصير السيطرة على حمى الوادي المتصدع والحد من خطره، ويذكر فيشكر للدكتور أسامة شبكشي صراحته ووضوحه وشفافيته في التعاطي مع المرض والاعتماد على الدراسات والأبحاث والصدق في الأرقام مع المسؤول والمواطن على حد سواء.
في التعاطي مع مرض انفلونزا الطيور يحسب لوزير الزراعة السابق الدكتور فهد بن عبدالرحمن بالغنيم تعاونه مع وزارة الصحة واتخاذه خطوة جريئة وصارمة بحرق حظائر الدواجن رغم ما واجهه من امتعاض ومعارضة واعتراضات.
عندما ظهر فيروس الكورونا عندنا أول مرة كعدوى في شوال ١٤٣٣هـ ودق جرس الإنذار بمرض معد قاتل سريع قد يتحول إلى وباء كانت الأوضاع الاقتصادية في أفضل حالاتها وكانت ميزانية وزارة الصحة هي الأعلى لكن المال وحده لا يكفي، فقد كانت عناصر الطب الوقائي ضعيفة علميا وقليلة القدرات والتجربة، وكانت الشفافية في أدنى حدودها واقعا وأعلاها ادعاء، مما أحدث طمأنينة سلبية لدى الجميع فانتشر المرض كماء من تحت تبن ولازلنا نعاني.
من الدروس المستفادة من كورونا أيضا أن الأبحاث هي عصب الإحساس بالمشاكل الصحية وليس مجرد التصريحات والتوقعات والأحاسيس الشخصية والأهواء، وأننا يجب أن نسمع للعالم لا للمتعلم، فقد مرت أربع سنوات ونحن لازلنا نتوهم ونتهم الإبل تارة ووعي المواطن تارة أخرى ونقول قضينا على المرض ثم يصبح كارثة!.

استشهاد اللواء مكسب لنا وخسارة لهم

عندما استشهد العميد عودة بن معوض البلوي قائد سلاح الحدود في منطقة الحدود الشمالية عند مباشرته في ساعات الفجر الأولى لمتسلل إرهابي فجر نفسه بحزام ناسف كتبت بأن ما يميز الموظف العسكري عن الموظف المدني هو أن العسكري مهما علا مركزه أو ارتفعت رتبته فإنه يتواجد في مكان عمله بل في ساعات مبكرة وفي الخطوط الأمامية دائما، وهذا يتوجب علينا أن نقف إجلالا واحتراما لهذه الفئة من الموظفين ونتخذهم قدوة ونميزهم بمثل تميزهم.
منذ يومين استشهد اللواء الركن عبدالرحمن بن سعد الشهراني قائد اللواء الثامن عشر وهو يقف في مقدمة اللواء الذي يقوده دفاعا عن أرض الوطن ولم يمت قاعدا على مكتب وثير، ولا وهو يقف في مؤخرة الصفوف بل في مقدمتها وفي مرمى النار.
للشهادة في حد ذاتها قيمة عظيمة ومكانة في عليين يتمناها كل مؤمن ويدعو الله أن تتحقق له ولمن يحب ويفرح بها أيما فرحة هو وأقاربه وأبناء وطنه رغم ألم الفراق وخسارة الفقد، لكن ثمة إيجابية عظيمة أخرى لاستشهاد عسكري برتبة لواء تفوق كل خسارة يعتقدها متشائم أو يفرح بها عدو وهي الانعكاس الإيجابي جدا والمشجع على نفسيات أفراد اللواء الذي يقوده وغيرهم من الجنود وضباط الصف والضباط في الألوية الأخرى وكافة القوات في الميدان حاضرا ومستقبلا لتواجده في الصفوف الأمامية ونيله الشهادة وهو في مقدمة الجيش.
عندما يشعر الفرد الأقل رتبة عسكرية أن قائده يسابقه على بذل الروح والفداء فإنه سيزداد بذلا وعطاء وفداء وشجاعة واندفاعا وسيزيد الجيش بأكمله قوة وعزما وسرعة في تحقيق أهدافه، ولذا فإن في استشهاد اللواء الركن عبدالرحمن الشهراني مكسبا عظيما له في الآخرة بتحقيق أمنية ثمينة، ومكسبا لقواتنا في شكل دافع وتشجيع وحماس، وخسارة للعدو ظهرت واضحة وجلية في الوقوف على مشارف صنعاء لتحريرها والقضاء على الخونة.

ضعف الرقابة بين الصالح والطالح

أكثر ما يحبط الموظف الصالح هو أن يرى زميلا فاسدا يستفيد من الفساد ولا تضبطه عين الرقيب، أو تراه وتتغاضي، أي أن يرى الفاسد يستفيد من فساده ولا يخسر بعقوبة، وأكثر ما يشجع الفاسد هو عدم مراقبته والاحتمال الكبير لنجاته بفعلته دون عقوبة.

لو تقصينا الكثير من مشاكلنا التي نتعرض لها لوجدنا أن أساسها هو ضعف الرقابة وأمن العقوبة وإساءة الأدب المبني على أمن العقوبة في كثير من دوائرنا ووزاراتنا ومؤسساتنا، ودعك من مكافأة الموظف المحسن، فهذه مرحلة لاحقة تأتى بعد معاقبة المسيء في جدول الأولويات؛ لأن الموظف المخلص الصالح لا ينتظر جزاء ولا شكورا، وإن حصل شكره ومكافأته فرح وازداد حماسا وولاء للوزارة أو المؤسسة، أما ولاؤه للوطن ففطري موجود.

الأكثر أهمية لدى الطرفين أو الفئتين من الموظفين الصالح والطالح هو عدم إفلات الطالح من الرقابة ومن ثم العقوبة الرادعة.

استعرض ما شئت من الأمثلة، ولنبدأ بأكثرها شيوعا ولا نقول أقلها خطرا:أستاذ الجامعة الذي يتحمل عبئا تدريسيا هو الأعلى ويجري أبحاثه بنفسه وينتظر الترقية سنوات طويلة؛ لأنه عمل لها بأمانة، سعيد جدا بأمانته، لكن يسوؤه ويحبطه أن يرى الكثير من زملائه لا يقومون بالحد الأدنى من العبء التدريسي المطلوب ولا يجرون أبحاثهم بأنفسهم ويعملون مستشارين في دوائر حكومية بطريقة صورية مدفوعة الأجر ويحصلون على الترقيات السريعة!.

الطبيب الاستشاري الذي يحضر لعيادته بالتزام ويقوم بتدخلاته العلاجية نحو مرضاه بأمانة ويراجع ملفاتهم قبل كل تدخل ويدرب أطباء الامتياز والمقيمين ولا يوكل واجباته لهم ولا يعرض مرضاه للخطر، هو سعيد بأمانته، لكن ينغص عليه أن يرى زملاءه يخرجون من الدوام من العاشرة صباحا ويذهبون لتكسب غير مشروع في مستشفيات خاصة ويهملون مرضاهم ويعرضونهم لأخطاء الطلبة والمتدربين وقليلي الخبرة دون أن تكتشفهم عين رقيب، أو تراهم وتجاملهم.

قس على المثالين ما تريد، وستجد أننا لو فعلنا العمل الرقابي بعزم في وزاراتنا كلها وشددنا المحاسبة بحزم وعاقبنا بصرامة، فإن كثيرا من مشاكلنا بل كوارثنا ما كانت لتكون.

لك أيضا أن تتخيل لو طبقنا المحاسبة بأثر رجعي مثلما يطبق وطننا الغالي المكافأة بأثر رجعي، فهل سيهمل مسؤول أو مدير ما يعرض حياة الناس أو أموالهم للخطر؟!.

مثلا، لو علم من تساهلوا في التعامل مع الكورونا أنهم سيحاسبون بأثر رجعي، هل كانوا سيجرؤون على التهاون؟!.


أبحاث وطنية إجبارية أو المغادرة

الأسرة والمنزل والحالة الاجتماعية هي من تؤثر تأثيرا بالغا في سلوكيات الفرد، وهي من تحول طفلا ولد على الفطرة وديعا إلى شاب عنيف أو انتحاري، أو شاب أكثر وداعة وناجحا ومفيدا لأسرته ومجتمعه ووطنه، ويجني أصحاب الأهواء والأجندات والتعصب للرأي على الوطن عندما يوهمونه بأن ما نتعرض له من خطر الإرهابيين الانتحاريين هو بسبب مناهج أو دروس على يد علماء أو تشدد في الدين، ويحولون الاهتمامات الوطنية إلى الطريق الخاطئ، بدلا من البحث والتقصي الأسري، وبذلك وقعنا ضحية لتكرر حالات لم تدرس ولم تبحث.
هؤلاء الصغار ما كان لهم أن يقعوا فريسة لأعداء الوطن من المخربين أو من شابههم من جميع أشكال أعداء القيم والصلاح؛ كمروجي المخدرات وعصابات السرقة والملحدين وعبدة الشيطان والمثليين لولا أنهم (أي هؤلاء الصغار) واجهوا مشاكل أسرية من عنف وحرمان وانفصال والدين وأخطاء في التربية، أو إرهاصات اجتماعية جعلتهم بيئة مناسبة لتقبل التوجيه للجريمة ووسطا جاهزا للإقناع والإفساد.
لذلك، ركزت في مقال أول أمس الثلاثاء على لوم أساتذة الجامعات في عدم إجراء دراسات اجتماعية وأبحاث استقصائية لأحوال صغار يفجرون أنفسهم من أجل قتل مصلٍّ ساجد أو يهربون للقتال مع جماعات لا يعرفون أهدافهم ولا توجهاتهم.
في ذلك المقال، ركزت على فضح حال الأبحاث لدينا، والتي يحتال فيها بعض أساتذة الجامعات، بإيكال أمرها لمساعد متعاقد يفبركها ويكتبها باسم رئيس القسم أو الدكتور الذي يعمل مساعدا له، واليوم أركز على أهمية تلك الأبحاث والدراسات وطنيا في الحرب على كل فساد وجريمة، ومنها الإرهاب، وأدعو إلى تشديد الرقابة على أبحاث الجامعات وكراسي البحث (ولو أن جميعها منح)، وضرورة وضع آلية أكثر حزما وشدة تجبر عضو هيئة التدريس على إجراء أبحاث ودراسات تفيد الوطن أو يترك الجامعة لمن يستحق البقاء فيها.

أين أبحاثنا من مراهق داعشي؟!

لأننا نهمل الدراسات والأبحاث لم يكلف أستاذ جامعي واحد نفسه بإجراء دراسة تبحث الوضع الاجتماعي والخلفية الأسرية لصغار السن من الانتحاريين التكفيريين الذين تستخدمهم الجماعات الإرهابية لتنفيذ أهدافها بطواعية وإقبال.
لا بد من خلل أسري أو تربوي أو حالة نفسية غير طبيعية ناتجة عن حرمان أو عنف أو تحقير تجعل شابا صغيرا في مقتبل عمره قابلا للتوجيه والاستغلال فيختار طريق الموت في غير جهاد صحيح يقاتل به أعداء دينه ووطنه أو دفاعا عن عرضه أو نفسه أو حتى ماله!، ولماذا ينصاع وبسرعة وسهولة ومبكرا لقوى إرهابية شريرة تجعل منه أداة لقتل أخيه المسلم وأين؟! في بيوت الله وأثناء أدائهم الصلاة وهو يراهم سجدا!، وكيف؟! بتفجير نفسه!!.
هذا السلوك الغريب الشاذ مدعاة لإجراء مئات الدراسات والأبحاث في الجامعات بل هو مادة بحث تفرض نفسها لو كان لدى أساتذة الجامعات في جامعاتنا النظرية الحد الأدنى من الحس الديني أو الوطني أو الإنساني بل وحتى الحس المهني!، وللأسف أن أساتذة الجامعات لدينا في الشقين العلمي والنظري لا يعيرون الأبحاث الوطنية الجادة أدنى اهتمام وليس لهم باع في مجال الدراسات المتخصصة ذات المردود على المجتمع على مستوى العالم ويمارسون تنظيرا فقط من كراسيهم المكتبية الوثيرة كونهم يحملون شهادة دكتوراه تبعها أستاذية لا تقوم على أساس.
أرجو أن لا يخرج مكابر ويقول إنه لا يوجد لدينا تشجيع للبحث العلمي بل على العكس، لدينا أكثر كراسي الأبحاث المدعومة بالملايين على مستوى العالم ومن أكثرها مالا عالميا، لكنها ويا للأسف غير مراقبة وأصبحت مالا سائبا يعين على الفساد بل هو الفساد بعينه!!.
ولدينا نظام ترقيات أعضاء هيئة التدريس في سلم التدرج العلمي الذي يتطلب إجراء أبحاث ونشرها، لكن عضو هيئة التدريس يكلف مساعدين ومعيدين من الإخوة العرب والمتعاقدين من جنسيات مختلفة بإجراء أو فبركة البحث ثم يضع عليه اسمه وينشره، ولذا فإن الترقيات لدينا هي الأسرع والأعلى عالميا دون أبحاث ذات قيمة وطنيا.
لا بد من هيئة وطنية فاعلة وموثوقة للرقابة على البحث العلمي والترقيات وإلا أصبحنا مجتمع دكاترة وأساتذة و(بروفسورات) مزيفين ودون أدنى مردود وطني.

ما كان لنا عليكن من سلطان

انتظرت عنوة، ومر أسبوعان على خبر نشرته صحيفة الوطن حول إجبار الفتيات العاملات في محلات العطور والزينة والمستلزمات النسائية على تحميل البضائع والقيام بأعمال النظافة، ورغم مرور هذه المدة الطويلة لم يتطرق أحد من مؤيدي عمل المرأة في تلك المتاجر لمعاناتهن!، ليس هذا فحسب، بل أن الوسم (الهاشتاق) الذي عمل حول هذا الخبر لم يهب للمشاركة فيه أي ممن كان (يصرخ) في القنوات مؤيدا عمل الفتيات في بيع المستلزمات النسائية والمكياج والعطور!!.
كأنهم كانوا يريدونهن أن يعملن فيها وحسب، لحاجات في أنفسهم، ليس من بينها حقوقهن أو صالحهن أو عطفا عليهن!، بل كأنهم عندما يرونهن نادمات يواجهن ما كنا نحذر منه من عدم توفر أرضية مناسبة من حيث الاحتياجات الإنسانية كدورات المياه والنقل وتنظيم العمل والحماية القانونية، أو يرونهن يستغلين أسوأ استغلال فيندمن ويتحسرن على واقعهن، سيقولون لهن (ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان).
حذرنا مرارا وتكرارا من أن الاستعجال في توظيف الفتيات في الأسواق ومحلات الملابس والمستلزمات النسائية قبل توفير أرضية أساسية لهذه الخطوة ستؤدي إلى كوارث!، والأرضية الأساسية التي لم توفر بعد تشتمل على توفير الحماية النظامية المفصلة لعقد العمل وتوفير دورات المياه المهيأة لاحتياج فتاة تعمل لساعات طويلة وتوفير أماكن تناول الوجبة الغذائية والقهوة والشاي بستر وراحة وتوفير وسائل نقل جماعية وفي أوقات مختلفة تتناسب مع الدوام وتوفير قنوات سرية للشكوى (أي شكوى من أي شكل من أشكال الممارسات المتوقعة).
ومع كامل الاحترام لتعليق متحدث وزارة العمل تيسير المفرج على الخبر بقوله بعدم تدخل برنامج تأنيث محال الملابس النسائية في مهام العمل وأن على من يطلب منها ما لم تعوض عنه أو خارج نطاق المهام، تقديم شكوى!، ومع كامل الاحترام لتصريح لاحق لناجي الأحمدي مدير التفتيش بمكتب العمل بالمدينة المنورة بأن المكتب سيراقب ويفتش ويحاسب، أقول لماذا تبرأ البرنامج من المهام وهو الذي حدد وخصص طبيعة المحال؟!، وأين مراقبتك وتفتيشك ومحاسبتك قبل أن ينشرن شكواهن خائفات مما سيتعرضن له من قمع التجار ومختفيات بأسماء رمزية لعلمهن أنهن للعقاب أقرب من الحماية؟!.
لقد ذكرت في هذه الصحيفة المباركة تحت عنوان (دسوقي مدير بائعة العطور) الذي تحرش بالبائعة، وما تبعه من مقالات، أن مكاتب العمل مخترقة من قبل أصحاب المحلات وأن الشكوى يعلم بها التاجر قبل مدير المكتب ولا يبت فيها المكتب وهذا ما يخشينه.

بل حققوا في عدم التحرش !

كعادتنا القديمة جدا، تهب المؤسسات والإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مع الحالة المعلنة وكأنها الوحيدة!، ويصرح المسؤول بتشكيل لجنة التحقيق وتحفل قضية واحدة بالاهتمام وكأنها حالة نادرة.

هذا ما حدث مع قضية ادعاء متقدمة لوظيفة في مدينة الملك فهد الطبية بأنها تعرضت لتحرش بطلب بشع ممن في يده مصير قبولها ــ على حد قولها، وقد بادر معالي وزير الصحة المهندس خالد الفالح، عبر حسابه الموثق في تويتر، بإعلان تشكيل لجنة للتثبت من صحة الادعاء ومعاقبة من تثبت إدانته.

تشكيل اللجنة والتحقيق والتثبت ومعاقبة المتهم إن ثبتت إدانته، أو معاقبة المدعية إن كذبت وكان من الصادقين، جميعها تفاعلات جيدة ومطلوبة وعادلة.

الظاهرة القديمة السلبية التي أقصدها هي فورة قارورة المشروب الغازي مع كل حادثة، وكأنها نادرة وهي ليست كذلك، وعدم معالجة أصل المشكلة التي تحدث وتتكرر، سواء طفت على السطح وتفاعل معها الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي أم لا.

التحرش في مواقع العمل المختلط واقع مرير موجود وشائع عندنا وعند غيرنا من دول العالم، والفارق الكبير جدا هو في ردة فعل ضحية التحرش نفسها، ففي مجتمعنا المحافظ خصوصية (البعض عندنا لا يحبون أدنى ذكر للخصوصية، وهي واقع نفخر به دينيا واجتماعيا وتمسكا بعادات وتقاليد محمودة غصبا عن كل من يحاول تجريدنا من خصوصيتنا!)، وهذه الخصوصية تكمن في أن غالبية المتحرش بهن لا يشتكين ويرغبن في الستر ودفن القضية في مهدها ومغادرة المكان دون ضجة، ولذا فإنني اعتبر المطالبة بقانون عقوبات للتحرش مجرد إثارة؛ لأن العقوبات الشرعية العادلة موجودة في الشرع الحكيم الذي نحكم به، وما نحن بحاجته فعلا هو منع أسباب التحرش والوقاية منه بعدم وضع حاجة الموظفة أو المتقدمة لدى رجل في بيئة عمل تقويه عليها، فيلجأ لاستغلالها واستغلال حيائها ورغبتها في الاسترزاق بستر.

عملت في المجال الصحي المختلط أكثر من ثلاثين سنة رأيت فيها معاناة الموظفة المستورة مع إيكال أمر ترقيتها وانتدابها وتعويضاتها وحل مشاكلها الإدارية في يد شباب في الشؤون الإدارية قد يكون بينهم شاب مريض (وما أكثرهم)، فيبدأ بطلب (جوالها) لتبشيرها بالنتائج، ثم يطلب (تجوالها) في بحر شهواته، فتترك حقها وتهرب، ولذا اقترحت على أكثر من وزير ومدير قطاع إنشاء إدارة تقوم عليها امرأة ويعمل بها نساء، تتولى متابعة حقوق الموظفة لدى الرجال في مقر العمل الذي يستدعي اختلاطا، وتكفيها شر استجداء الرجال والخضوع في القول، لكن لم ينجح أحد!.