اليوم: نوفمبر 16, 2024

يسمونه وسخًا ويأكلونه

الأمر يحتاج إلى بحث (جيني) وليس البحث عن (جني) أو شيطان يقف خلف هذا السلوك الغريب أو التحول الفوري من حالة الزهد الشديد إلى حالة السرقة.

نعم أمر تحول الإنسان من شخص يرى الدنيا رخيصة جدًا وهو في المقبرة يدفن أخا أو صديقا أو عزيزا ثريا ترك خلفه أموالا طائلة وأراضي شاسعة، إلى شخص ينهب شقيقه ويخدع صديقه ويحتال على فقير ويستقوي على ضعيف، أمر يحتاج إلى دراسة للجينات أو العوامل الوراثية والحمض النووي المسؤول عن هذا التحول السريع في الطباع والقناعات، ونحن نفتقد لمثل هذه الأبحاث التي تدرس سلوكيات الناس وتحللها، بل العالم أجمع (بمن فيهم الغرب المتقدم في مجال الأبحاث والدراسات) يفتقد لمثل هذه الأبحاث والدراسات النفسية، لكننا أكثر حاجة منهم، ليس لأننا أكثر إجرامًا وتحولًا، ولكن لأننا أكثر تمسكا بقيم دينية وأخلاقية يفترض أن تردعنا، وأكثر استشعارا وشعورا أن الحياة الدنيا محطة عبور هي أرخص وأحقر من أن ننشغل بها عن دار الخلود، بدليل أننا أكثر من يساوره ذلك الشعور الزاهد في الدنيا بأموالها وأراضيها في أوقات محددة وظروف معينة مثل دفن عزيز ثم يحدث لدى كثير منا ذلك التحول السريع والرجوع للجشع وسرقة شقيق أو خداع صديق واختلاس ماله أو أرضه أو حقوقه وظلمه.

أعلم أن الشيطان وجنوده خلف كل شر وتحول من الخير إلى الشر (أعاذنا الله منه) لكن الشيطان موجود في كل مكان بما فيه المقبرة وفي كل زمان بما فيه الساعات أو حتى الأيام التي تلي الفقد أو الظرف الذي تحدث فيه حالة الزهد، فما هو الطبع أو (الجين) أو (الكروموزوم) المسؤول عن الضعف الشديد أمام وساوس الشيطان والذي يعزف عليه الشيطان سريعا فيجعل ذات الشخص يرقص طربا لمغريات الدنيا من جديد وبسرعة؟!

وأعلم أن النفس الأمارة بالسوء لها دورها في ذلك التحول السريع من الزهد إلى الطمع، لكن الغريب هو اجتماع النقيضين أو الضدين في ذات الشخص في وقت واحد فتجده يقول وبإلحاح ما لا يفعل (أسمع كلامك يعجبني وأشوف أفعالك أتعجب)، وتراه ينصح بالزهد بقوة وإقناع وهو ينهب بنهم واقتناع، بل يمارس الوعظ وهو يعظ، وينصح بالصدق وهو كذاب، وبصلة الرحم وهو قاطعه، ويسمي المال (وسخ دنيا) وهو يأكله!

هذه التناقضات التي تحدث في الشخص نفسه في الوقت نفسه تنم عن خلل نفسي يحتاج لدراسة؛ علّنا نستطيع الحد منه بقطع دابره وليس بالوعظ فقط، فكفى بالموت واعظا ولم يتعظ كثير ممن يعملون جاهدين على جمع الأموال وتعدادها ونهب المساحات والاعتداء على أملاك الآخرين ومثلهم مثل صاحب التسع وتسعين نعجة ويريد أخذ نعجة أخيه ليتم بها المئة ويتركه تائهًا.

قد يقول قائل إن حرص هؤلاء على جمع المال والمساحات رغم اتعاظهم بالموت هو لضمان مستقبل أبنائهم، فنقول إن من حق غيرهم أيضًا ضمان مستقبل أبنائهم والله الضامن سبحانه وهو الرازق وعليه التوكل، ثم إن كثيرًا من الأثرياء في العالم حرصوا على جمع الكثير من المليارات وهم لا وريث لهم ويورثون كلالة، لكن حب المال وتملك الأرض والمزارع شعور غريب أصر على أنه يحتاج لدراسة عميقة متعمقة لا تقبل المبررات السطحية.

نشر بجريدة الرياض يوم الأربعاء 11 جمادى الأولى 1446هـ 13 نوفمبر 2024م

الممارسون الصحيون يعلنون والرقيب لا يردع

إعلان الممارس الصحي عن نفسه ممنوع نظاماً حسب المادة العاشرة من نظام مزاولة المهن الصحية، حيث حدد النظام في الفقرة (أ) أنه يحظر على الممارس الصحي (في غير الحالات التي تحددها اللائحة التنفيذية) الإعلان عن نفسه أو الدعاية لشخصه مباشرة أو بالوساطة، وكانت الفقرة (ب) من هذه المادة واضحة وصريحة حيث نصت على أنه يحظر على الممارس الصحي أن يسجل على اللوحات أو البطاقات أو الوصفات الطبية أو الإعلانات ألقاباً علمية أو تخصصات لم يحصل عليها وفقاً للقواعد المنظمة لها.

الأنظمة لدينا رائعة جداً ودقيقة ومفصلة، لكن التزام الممارسين الصحيين بها يكاد يكون معدوماً بسبب ضعف المراقبة والمتابعة وتطبيق العقوبات الرادعة، لذا تجد وسائل التواصل الاجتماعي خاصة (X) تعج بالمخالفات خاصة من قبل بعض الأطباء ممن تحولوا إلى تجار يعتبرون المريض (زبوناً) يجب إغراؤه، والمرض (سلعة) يجب استغلالها، فتجد أحدهم يضع في تعريف حسابه أنه جهبذ الطب والخبير في تخصصه وفي غير تخصصه (مثل: التجميل الذي أصبح تخصص الجميع بسبب دخله العالي)، ويكون معرفه أكثر من أربعة أسطر كلها دعاية لنفسه ويختمها برقم جوال التواصل!! فأي إعلان ودعاية وجذب أكثر من هذا؟!

إن إغراء المريض للتوجه لممارس صحي بعينه سواء كان طبيباً أو طبيب أسنان أو أخصائي علاج طبيعي أو صيدلانياً أو أخصائي تغذية وغيرهم من الممارسين الصحيين أمر زاد عن حده بل يفترض ألا يحدث أبداً، لكن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تعج بهؤلاء وأصبحت ساحة أشبه بالحراج الذي فيه يصرخ كل بائع بأعلى صوته للفت النظر لسلعته، وهذا سلوك غير لائق مهنياً ولا يتناسب مع ما نشهده من تطور في الأنظمة والحزم في تطبيقها إلا أن إدارة الإلتزام والمتابعة بوزارة الصحة تحتاج هي لمتابعة والتزام فليس أوضح مما ينشر في (X) و(السناب) وأخواتهما.

وليس أدل من أن الصورة الدعائية بلغ فيها السيل الزبى دون ردع من رقيب، مما يحدث في سوق علاج احتكاك الركب وتركيب المفاصل ومجال المسالك البولية وتوابعه من أعراض الضعف الجنسي وتخصص العيون وعمليات تصحيح النظر والطب النفسي، من إعلانات بطرق مباشرة من الطبيب نفسه أو المستشفى الذي يعمل فيه الطبيب (سواء كان نظامياً أو مخالفاً) أو عن طريق أشخاص أخرين يستخدمهم الممارس للثناء عليه وجلب (الزبائن) له، وكل هذه الممارسات شملها النظام الوافي الكافي الذي يحتاج لمتابعة وحزم، هذا خلاف الوصول لقلب المريض عن طريق مداعبة مشاعره وما يعاني منه بنصائح وفتاوى طبية غير مدعمة بدليل أو بحث علمي، فطبيب القلب يفتي في الغذاء والدواء والزواج والمسرطنات والأسنان وحتى التعصب الرياضي، وقس على هذا بعكوز وبكوز الطب النفسي.

غني عن القول إن وجود نظام واضح وصريح ومستوفٍ لكل جوانب الممارسة ووجود مخالفين في العلن هو مدعاة للاستهانة بكل منع إذا لم يتبعه ردع.

نشر بجريدة الرياض يوم الأربعاء 4 جمادى الأولى 1446هـ 6 نوفمبر 2024م

احذروا الأنوف الشائكة

يحرص بعض الموظفين المقربين من المدير العام أو المسؤول الأعلى منه على منع غيرهم من الوصول إليه أو حتى الاقتراب منه خوفاً على مناصبهم أو حظوتهم لديه، فيشكلون حوله دائرة من الأسلاك الشائكة تمنع المرور إلى المدير أو المسؤول إلا عبرهم ومن خلال بواباتهم المليئة بالأسئلة (ماذا تريد منه؟! ماذا ستقول له؟! أنا سأنقل له ما تريد، ابق مكانك)، والمدير الذكي هو من يحرص على الوصول لأصغر موظف، فيسلم على هذا ويطبطب على ذاك ويسأل الموظف الصغير عن أحواله، بل يصل للمراجع ويسأله عن مدى رضاه.

في مقال قديم جداً نشر في هذه الصحيفة الهادفة سمّيت هؤلاء بالأنوف الشائكة، مستعيراً التسمية من الأسلاك الشائكة، وتمتد الأسلاك الشائكة لتمنع مرور «متطفل» إلى منطقة محظورة ليس من حقه العبور إليها إما لأن ملكيتها تعود لغيره، وغيره هذا لا يريد لأحد أن يدخلها غيره، أو لأنه ليس من المفترض أن يطلع على ما بداخلها رغم أنها ملكية عامة أو من أجل منعه من الإضرار بها وحمايتها أو لحمايته لأن فيها ما قد يضره.

بالنسبة للأسلاك الشائكة الأمر طبيعي جداً ومقبول بل مطلوب، فهي مصنوعة من جماد ويتكون غالباً من الحديد المطاوع وإن قام بمدها وإحكامها البشر.

ثمة أجساد بشرية شائكة لم يمدها أو ينصبها أحد لكنها مدت نفسها لتحيط بشخصية عامة وتحرم غيرها من الاقتراب من تلك الشخصية بل تجتهد في المنع وكأن ذلك المدير أو المسؤول شيء تمتلكه أو منطقة محظورة بقرار ممن يحيطون به من الأجساد الشائكة.

في عصر الوعي والشفافية والرغبة في الاحتكاك بأكبر عدد ممكن من الناس ومن شرائح وفئات مختلفة ومتعددة يحرص المسؤول عن شأن ما أن يستمع للجميع ويحاور الغالبية وينوع مصادر اطلاعه واحتكاكه بالناس. لكن من يحيطون به يصرون على ممارسة الوصاية على محيطه ويتحولون فجأة إلى أنوف شائكة تمارس شم رائحة القادم الجديد المرفوض أصلاً بالنسبة لهم مهما كانت رائحته وينصبون أمامه العوائق التي تناسب طبيعته أو «رائحته» بالنسبة لهم.

فإذا كان ممن لديه أنفة وعزة نفس وحساسية مفرطة لما ينال من كرامته فإن التطفيش وإشعاره بعدم الرغبة فيه كفيل برده.

أما إن كان كثير المشاغل فعلاجه بكثرة المواعيد، وهكذا فإن لكل قادم أسلوباً «لتصريفه» إلى أن يأتي من تفوح منه رائحة عدم الإحساس ولا الأنفة ولا الذكاء وهذا يتركونه وشأنه ليجتاز كل العوائق لأنهم يعلمون أنه لن يحظى بالقبول لدى المدير ولا يشكل خطراً على منطقتهم التي يملكونها أو يدعون ملكيتها.

بقي أن نقتنع بنظرية الأنوف الشائكة تلك وإذا اقتنعنا فإن المدير الذكي أو المسؤول الأذكى هو من يعمد إلى الخروج من دائرة الأجساد الشائكة ليقابل الناس بعيداً عنها؛ لأن أحداً لن يستطيع منعه.

بل ما رأيك في إجراء تغيير دوري للأنوف من حولك؟!

نشر بجريدة الرياض يوم الأربعاء 27 ربيع الآخر 1446هـ 30 أكتوبر 2024م