اليوم: فيفري 6, 2025

شتان بين القناص ومن ترك (الفلوس)

هما ضدان، وبضدها تتميز الأشياء، كما قالها الحكيم المتنبي الذي ينطق الحكمة شعراً، أو كما قيل في قصيدة اليتيمة المنسوبة لدوقلة المنبجي (ضدان لما استجمعا حَسُنا ،، والضد يُظهِرُ حسنه الضد)، والضدان هنا لهما نفس العلم والمهنة وتقارب في العقد والراتب والبدلات لكن المردود متعاكس متضاد بتباين شديد.

كتبت كثيراً وسأكتب أكثر عن أطباء صرف عليهم الوطن وعلمهم وابتعتهم ووظفهم وأجزل لهم العطاء في الرواتب والبدلات وبدل المناوبات وجعل لهم أعلى بدل تفرغ ولم يتفرغوا، بل تركوا عياداتهم في وقت الدوام الرسمي ليذهبوا للعمل في عيادات غير نظامية في المستشفيات الخاصة بحثاً عن دخل إضافي غير نظامي، أدى فيه الجشع إلى تباين التشخيص عندما يكون الطبيب في عيادته الحكومية عنه عندما يكون في عيادة المستشفى الخاص، واستشهدت كتابياً وتلفزيونياً بأمثلة لتباين التشخيص وكمية الأدوية وتكلفة الأدوات التي يكتبها الطبيب الجشع في الخاص عنها في الحكومي مستشهداً بجراحة العمود الفقري وجراحة الركبة والتجميل والعيون.

وكتبت كثيراً أيضاً وسأكتب أكثر عن أطباء سعوديين أصبحوا رواداً في مجالاتهم وتخصصاتهم وقبل ذلك في إخلاصهم وإنسانيتهم وتطوعهم، وذكرت أمثلة منهم في مقالاتي في صحيفة الجزيرة، ثم صحيفة “الرياض” ثم صحيفة عكاظ ثم صحيفة “الرياض” بعد العودة حالياً، وفي حوارات متلفزة كثيرة، ومنهم الأطباء محمد المعجل، وأسامة شبكشي، وعبدالله الكريدة (رحمهم الله)، ومحمد المفرح، ومحمد الفقيه، ومحمد السبيل، ومؤيد الزيبق، ومحمد قطان، وخالد بن علي الربيعان، وخالد بن محمد الجبير، وعبدالله الربيعة، وسعود الجدعان، وهاني نجم، وسعود التركي، وعبدالعزيز القناص، ومحمد الوهيبي، وأحمد الفريان، وعلي بن سلمه، ونوفل الجريان، وخالد الجهني، وعلي بن معيض الشهري، ورتبتهم زمنياً فقط مع حفظ الألقاب وقد أكون نسيت بعضهم وإن كانت إنجازاتهم لا تنسى.

أما مناسبة المقال فهي تلك الخطوة الإنسانية الخيرية المتجردة من كل حب للمال ومن كل طمع في (الفلوس) التي خربت النفوس، التي قدمها لدينه ووطنه وتربيته الحسنة الطبيب عبدالعزيز بن صالح القناص استشاري الجراحة والرائد عالمياً في مجال جراحة القدم والكاحل، والمحاضر عالمياً في مؤتمرات العناية بالقدم السكري، ومحاولة تلافي بتر القدم قدر الإمكان باتباع سبل العناية والوقاية التي لا يمكن شرحها هنا، حيث أسس بعد تقاعده مركزاً خيرياً للعناية بالقدم السكري في مدينة الرياض، تكفل هو بجميع تكاليف تأسيسه وأجهزته ورواتب موظفيه، وتكفل أحد رجال الأعمال (الذي لم أستأذنه بذكر اسمه) بدفع إيجار مبنى المركز التخصصي لطب وجراحة القدم والكاحل، وفي هذا المركز الخيري يقدم الطبيب الخبير عبدالعزيز القناص عصارة علمه وخبرته خدمة لوطنه ومجتمعه في شكل عناية مجانية لقدم مرضى القدم السكري، عسى أن يتحقق على يديه سلامة القدم السكري من المضاعفات وعلاجها وفك كربة مريض يخشى أن تبتر قدمه أو ساقه.

يقول د. القناص: “أتألم كثيراً حينما أرى أن مريضاً يعاني من مجرد بداية دخول ظفر إصبع القدم الكبير في اللحم ويطلب منه إجراء العملية بالتخدير العام ليدفع أكثر بينما هي عملية يمكن إجراؤها بتخدير موضعي بسيط وبدون تلك التكاليف العالية التي تستغل حاجته”.

هنا اكتفي بقول المتنبي: (وبضدها تتميز الأشياء) فشتان بين الاستشاري عبدالعزيز القناص وهو يرد جميل الوطن بعمل خيري مجاني، ومن يستغل تعليمه وتخرجه كطبيب ترك (الفلوس) تعبث في نفسه وذمته وقراراته في هذه المهنة الإنسانية.

نشر بجريدة الرياض يوم الأربعاء 6 شعبان 1446هـ 5 فبراير 2025م

عناق مخالف للذوق العام

تبذل دوريات أمن الطرق جهوداً عظيمة في الإشراف على سير الأمور على الطرق الطويلة وتتولى مهاماً عديدة مرورية وأمنية ورقابية ومساعدات غير محدودة لرواد الطريق، وحقيقة لا ينكرها إلا مكابر أن كثافة دوريات أمن الطرق كبيرة جدًا، وانتشارها وتقاربها يحقق تغطية واسعة يليق بمستوى الخدمات المتعددة التي تقدمها، وقد ذكرت هذا في مقال سابق متحدثاً عن طريق الرياض الدمام وتفرعاته.

هذه المرة سوف أتحدث مستشهداً بواقعة عن طريق الرياض – سدير – القصيم، والذي يشهد كثافة كبيرة جداً بل وازدحاماً وكأنه أحد طرق وسط العاصمة الرياض بسبب العدد المهول من المركبات التي ترتاده خاصة الشاحنات (التريلات) وحافلات النقل الجماعي وشاحنات النقل الزراعي المعروفة بـ(الدينا) والتي تحمل منتجات زراعية ودجاجاً وخلافه، هذا إضافة للمركبات الصغيرة الخاصة حيث إن الطريق شريان عريض يصل العاصمة بعدة مناطق ومحافظات شمال المملكة مروراً بمنطقة سدير والقصيم، وإحقاقاً للحق فإن دوريات أمن الطرق توجد بأعداد وفاعلية كبيرة وأدوار متعددة.

وبحكم ارتيادي للطريق بكثرة خاصة من وإلى سدير فإنني ألاحظ أن الطريق يشهد ممارسات خطيرة ومخيفة جداً من قبل الشاحنات (التريلات) وحافلات النقل والشاحنات الزراعية خاصة فيما يتعلق بالتجاوز من اليمين أو استخدام المسار الأوسط وتجاوز طابور طويل متقارب من الشاحنات الأخرى مع عدم وجود إمكانية للرجوع للمسار الأيمن بسبب الزحام، خاصة في طريق العودة إلى الرياض ليلاً، وعموماً فإن مجرد استخدام (التريلات) لمسار غير الأيمن ممنوع (حسب علمي) إلا إذا وجد حادث، وتلك المخالفات من الشاحنات والحافلات كثيرة ومخيفة جداً للسائق المتزن العاقل، إضافة إلى مخالفات التهور من سائقي المركبات الصغيرة خاصة السرعة الجنونية والانحراف بين المسارات، والسلوك الأكثر خطراً ورعباً وهو إلصاق الصدام بالصدام لإجبارك على إفساح الطريق في المسار الأيسر رغم أنك تسير بالسرعة القصوى المسموحة وعدم وجود مسافة كافية في المسار الأوسط لإفساح الطريق.

في طريقي للعودة إلى الرياض ليلاً شاهدت أكثر من (تريلة) في المسار الأوسط تتجاوز صفاً طويلاً من الشاحنات في المسار الأيمن، ثم إذا شاهد السائق أضواء دورية على جانب الطريق خاف وحاول الرجوع للمسار الأيمن رغم عدم وجود مكان شاغر، وهنا يحدث ما نسميه في لغة كرة القدم المكاتفة غير القانونية ولكن بين (تريلات)، وهو ما يعني لي كسائق خلفهم انحراف إحداهما أو كلاهما والالتفاف والعودة نحوي وعندها -لا سمح الله- لن تكون مكاتفة بل عناقاً مخالفاً للذوق العام، حمانا الله من كل أنواعه، وسينتهي بكارثة لي ولمن خلفي ولن ينجو منه إلا سائق الشاحنة.

أصابني الرعب فخففت السرعة في المسار الأوسط خوفاً من تكرار الموقف المرعب خصوصاً وأن تلك الشاحنات تخرج من المسار دون سابق إنذار، وما هي إلا دقائق قليلة وإذا بدورية أمن الطرق تطلب مني الوقوف، وصادف أن الطريق مرتفع وعلى يميني سياج حديدي يعلو مجرى السيل وبعده كان الطريق مرتفعاً لكن الدورية خلفي تطلب التوقف فتوقفت بالكاد خارج الطريق واستأذنت رجل الدورية بأن أنزل أنا ونبتعد عن حافة الطريق، وكان قمة في الذوق فلم يقترب عندما لاحظ وجود العائلة، وسمح لي بالنزول وأشعرني بأن سرعتي كانت بطيئة 85كم/ساعة وهذه مخالفة، قلت أنا في المسار الأوسط ومن خوفي على أسرتي ونفسي مما رأيت تمنيت أن أسير على التراب بجانب الطريق أو أن أبيت في البر حتى تنقشع غمة الشاحنات وشرحت له سبب إبطائي وطمأنني أنه أوقف ومنح غرامة مخالفة التجاوز والسرعة لثلاث شاحنات، وأن الدورية الأخرى أمامنا ستوقف الشاحنة المخالفة وكان لطيفاً جداً، لكنه كان شجاعاً جداً ونحن نقف على قارعة طريق يهدر بالمركبات المسرعة في أربعة مسارات، أما أنا فكنت ارتجف خوفاً من سائق متهور ينحرف علينا فلا يبقي ولا يذر.

سائقو الشاحنات والحافلات والمتهورون غيرهم لن تردعهم إلا رقابة ميدانية بشرية (غير الكاميرات) وعقوبات مغلظة وإعادة نظر في الاكتفاء بالتأمين كتعويض للخسائر جراء الحوادث ذات الاستهتار أو شبه العمد، فيتحمل المتهور عقوبة مالية ومعنوية رادعة.

نشر بجريدة الرياض يوم الأربعاء 29 رجب 1446هـ 29 يناير 2025م

دهن سير الشهرة بزيت الزيتون

لب مشكلتنا مع الادعاءات الطبية والعلمية للباحثين عن الشهرة هو أن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت إعلام من لا إعلام رسميًا يقبله، لكن في الوقت نفسه فإن ما ينتشر في وسائل التواصل أصبح يؤثر في بعض البرامج المتلفزة خاصة البرامج الحوارية فتتبنى طالب الشهرة وتستضيفه وتروج لما يدعي من معلومات سطحية غير موثقة ولا محكمة سواء فيما يمس صحة الإنسان أو سلوكياته وأسلوب حياته، والناس أصبحوا يدركون أن أغلب ما ينشره هواة جمع المتابعين وطالبي الشهرة عبر وسائل التواصل هو غثاء وأبعد ما يكون عن الحقيقة، لكنهم مازالوا يثقون في البرامج الحوارية وقد تؤثر فيهم أو تقنعهم، لذا على معدي ومقدمي تلك البرامج أن يكونوا أكثر وعيًا وحذرًا من جياع الشهرة، وعلينا كباحثين ومتخصصين تذكيرهم أن المعلومة الطبية أو الدوائية أو السلوكية أو حتى الفيزيائية والكيميائية وبصفة أعم أي معلومة تقرر أن هذا ضار أو نافع لابد أن تمر بأبحاث ودراسات شاملة وعميقة وشاقة وليس مجرد انطباع شخصي عن حالة أو اثنتين أو عشر حالات.

على سبيل المثال لا الحصر لا يمكن لطبيب مهما بلغ عمره ورغبته في الانتشار أن يقول إن زيت الزيتون يرفع الكوليسترول لمجرد أن مريضًا جاءه بنسبة كوليسترول مرتفعة وقال إنه شرب زيت الزيتون!! فهذا التقرير ممعن في السطحية والاستعجال، ونهم الشهرة أكبر أسباب الاستعجال، فحالة واحدة أو حتى عشر حالات لا تكفي لهذا الحكم وحتى لو أدخلت العشر حالات في قلوبنا شكًا في علاقة زيت الزيتون بنسبة الكوليسترول المرتفعة فعلينا قبل الحكم أن نعرف نوع زيت الزيتون الذي تناوله العشرة وعلامته التجارية (البراند) ومكوناته، وهل بين مكوناته ومواده الحافظة ما يتفاعل مع كواشف المختبر الذي أجرى التحليل، وما السلوك الغذائي للعشرة ذلك اليوم وما سلوك نسبة الكوليسترول لديهم خلال الستة أشهر الماضية وعوامل كثيرة أخرى قد تكون سبب الارتفاع قبل أن نسارع ونحكم أن زيت الزيتون يرفع الكوليسترول.

باختصار علمي شديد وسريع أود أن أذكر الطبيب والمعد والمقدم وكل من يتأثر بالمعلومة السطحية أننا لكي نحكم أن (مثالنا هنا) زيت الزيتون يرفع الكوليسترول أو يخفضه يجب أن ندرس حالة عدد من الأشخاص لا يقل عن المئة ونوزعهم لمجموعات عمرية وسلوكية غذائية محددة ويتناولون كمية معروفة من زيت الزيتون معروف العصرة والنوع والعلامة التجارية وتاريخ الإنتاج ومكوناته المضافة (مواد حافظة وخلافه)، وأن يتم التحليل في مختبر واحد ونعرف كواشفه (نوعها وتاريخها وطريقة عملها)، وأن يكون لدينا (خارج المئة) مجموعة مقارنة أي مجموعة مرجعية أو ما نسميه (كونترول قروب) لهم نفس السلوك الغذائي والفئات العمرية والخصائص المتقاربة لكنهم لم يتناولوا زيت الزيتون، ثم نقارن النتائج بدراسات أخرى مشابهة لعلماء آخرين سبقونا لنخرج (باحتمال) وجود علاقة لزيت الزيتون في خفض أو رفع الكوليسترول.

خلاف ذلك فإن كل من ينشر معلومة طبية أو غذائية أو سلوكية أو نفسية مدعيًا أنها حقيقة وهي مجرد انطباع سطحي أو شغف في شهرة على حساب المعلومة التي قد تكون مضللة، تجب محاسبته وردعه عن التمادي في التضليل.

نشر بجريدة الرياض يوم الأربعاء 22 رجب 1446هـ 22 يناير 2025م