اليوم: ديسمبر 27, 2025

عقرب وضب.. وموقف مخيف وطريف

في مقال الأسبوع الماضي كتبت وبتوصية من مجموعة من المهتمين بشأن الوقاية من السموم توضيحا لبطلان ما يروج في وسائل التواصل عن طرق وخزعبلات تدعي علاج الملدوغ بالعقرب وشرحت أن العامل المشترك الأعظم المضلل لهؤلاء هو أن العقرب لم يحقن السم أصلا لانسداد إبرته في 20 ٪ من الحالات، كما أثبتت دراساتنا في مركز الأمصال، ثم عرجت على (سباحين) الجدة حبابة التي تدعي أن عقربا خان الضفدع ولدغه فقتله وقلت إن ذوات الدم البارد (مثل الضفدع) لا تتأثر بسم العقارب ووعدتكم أن أذكر موقفا طريفا محرجا مر بي في هذا الصدد.

ما حدث هو أنني ومنذ أيام الشباب وممازحة الضب بصب الماء في جحره (قبل حمايته) كنت ألاحظ أن جحر الضب لا يخلو أبدا من عقرب تخرج علينا فور صب الماء وكأنها تقول (الأستاذ ضب نايم، وما يبي إزعاج واليد اللي تمتد لكفيلي ألدغها)، وزادت عندي هذه الملاحظة عندما بدأت تأسيس المركز الوطني لإنتاج الأمصال بالحرس الوطني، وأصبحنا نخرج في رحلات برية نصطاد الصل الأسود لاستخراج سمه، وكنا نعلم أن الصل يتواجد دوما في جحر الضب في تعايش بيئي فيه الكثير من الأنانية والاعتداء وثقل الدم، فالصل يدخل جحر الضب فإن وجده صغيرا ابتلعه واحتل بيته، وإن وجده كبيرا حل ضيفا ثقيلا عليه دون دعوة ولا استئذان، والضب مثل بعض الطيبين من البشر (وسيع صدر ويتغافل ويقول نعتبره حماية من يد مقرود يمد يده ليتل العكرة) احترسوا فما خرجنا به من رحلات صيد الصل أن الصل دائما تجده في جحر الضب ولكن ليس كل جحر ضب فيه صل وإن لم يكن فيه صل فإن فيه عقربا.

ملاحظتي تلك (وجود العقرب مع الضب) جعلتني أتساءل، تساؤل الباحث منذ بداية أبحاثي على السموم لنيل الماجستير حتى قبل انتقالي للحرس وتأسيس المركز، هل العقرب تلدغ الضب ولا يتأثر بسمها؟ (هنا يجب أن ندرس خصائص دمه وجهازه المناعي وما العنصر المسؤول عن هذه المناعة؟) أم أنها لا تلدغه ولو لدغته لمات مثل غيره، عندها قررت دراسة الأمر أثناء الوقت الطويل الذي أمضيه لساعات تفوق 15 ساعة في مراقبة تأثير السموم ومن ثم الأمصال على رحم الفار أو أوعية الجرذان أو عضلة الساق الأمامية للقط أو قلب الأرنب أو أمعاء الوبر، وجميعها تحتاج مراقبة أجهزة الرصد لساعات، فقمت بوضع ضب متوسط الحجم مع عقرب في إناء زجاجي عميق وقمت بمراقبتهما ووجهي أمام الإناء لمدة ثلاثة أيام متتالية، فكان الضب هادئا والعقرب يدور حوله وفوقه ولم يلدغه، ثم قررت أن أستثير الضب ليتحرك فوضعت فوقه اضاءة قوية، فذوات الدم البارد تستثار بالضوء فلعله يلطمها أو يدوس عليها فتلدغه لكن ذلك لم يحدث لمدة ثلاثة أيام أخرى، وما حدث هو أن أستاذي في الماجستير البروفيسور محمد إسماعيل حامد دخل علي في المختبر واستغرب وجود تجربة الضب والعقرب، وكان رجلا حاضر النكتة وصارما في ذات الوقت، فشرحت له فكرتي وأعجبته لكنه انتبه لما لم أحسب حسابه فقال لي (انت حاطط بوزك ببوز الضب، تعرف لو الضب خبط العقرب بذيله حيطير العقرب في وجهك وحتتمدد جنب القط اللي أنت مخدره دا)، ضحكنا ثم قمت بتغطية الإناء بزجاجة واستمررت في المراقبة، لكن لم ألاحظ أن العقرب لدغ كفيله، فقمت بإذابة سم عقرب في محلول ملحي وحقنت ثلاثة أضعاف الجرعة التي تقتل الأرنب في عضلة رجل الضب فشاهدت أن الرجل تشنجت وامتدت لأقل من دقيقتين ثم عادت طبيعية وبقي الضب حيا حتى قررت إطلاقه بعد أسبوع.

وتعاطفا مع الضب الذي صبر كثيرا قررت إطلاقه في روض معشب، فخرجت من جامعة الملك سعود على طريق الملك فهد شمالا باتجاه سدير ثم لمحت على يميني أرضا معشبة مزهرة فتوقفت قرب الشبك وخشيت أن أطلقه فيعود خلفي للطريق السريع حيث الكفرات ليس منها مناعة فقمت بتوجيهه نحو العشب عبر ماسورة واسعة لتصريف السيل وبدأت بمداعبة عكرته ليتحرك وكان الوقت قرب غروب الشمس فإذا بيد ضخمة تداعب كتفي ثم رقبتي لألتفت مرعوبا (كنا نسمع أن الضب يتجنس أي أن الجن يتمثل في شكل ضب) نظرت خلفي فإذا برجلين طويلين عريضي المنكبين قال أحدهم (وش عندك؟!) قلت (أبي أدخل الضب في النفق) قال (وأنت بتدخل معنا في الدورية ما لقيت تطلق ضبك إلا في شبك قوات الأمن الخاصة؟!) شرحت له القصة وكأني بالضب يضحك ويقول (خل أبحاثك تنفعك) وتفهم رجلا الأمن الوضع وأمسكت بضبي وقد أصبح يستخف بي ويمون ولسان حاله يقول (سيب العكرة يا واد) فأطلقته في مزرعة والدي (السمرية) في جلاجل وكان، -رحمه الله-، رحيما لا يحب إيذاء أحد حتى الحيوانات.

نشر بجريدة الرياض يوم الأربعاء 4 رجب 1447هـ -24 ديسمبر 2025م

العقرب المسكين بريء من دم الضفدع

حاولت جاهدا وسوف استمر في المحاولات بتسخير ما أجريته من بحوث علمية مكثفة على سموم الثعابين والعقارب لنشر التوعية وتصحيح ما يحاك حول علاج الملدوغ من آثار سموم العقارب والثعابين من معلومات مغلوطة واجتهادات خاطئة لها أسبابها التي شرحتها في حسابي على اليوتيوب أو في حوارات متلفزة أو عبر المقالات، ومن تلك المعلومات الاعتقاد بإمكانية إنقاذ الملدوغ بالعقرب بوضع كلوركس أو تمرة أو جمرة أو بنزين، وقلت مرارا أن من أسباب هذا الوهم أن العقرب أصلا لم يحقن السم لانسداد إبرته فحدث الوهم بشفاء المصاب من تسمم لم يحدث أصلا، ولو حدث فإن السم لن يخرجه من الأنسجة لا تمرة ولا جمرة ولا عجينة، وأكثر ما يقلقنا كمتخصصين أن تؤدي تلك الأوهام (الواتسابية) إلى حرمان مصاب من العلاج أو تأخير وصوله للمستشفى فلا يصل إلا بعد فوات الأوان.

في حالة عضات الثعابين فإن تلك الأوهام أقل انتشارا لأن الثعابين إما أن تكون سامة جدا سريعة الفتك فتكون حالات الوفيات أكثر من حالات السلامة (خاصة لمن لا يصل للمستشفى ويتلقى العلاج بالأمصال) أو أن الأفعى تكون سامة جدا لكن تأثيرها يبدأ موضعيا ثم يزداد فيعرف أن العلاج بتلك الطرق الوهمية فشل سابقا وتعلم الناس دروسا مستفادة تجعلهم لا يجازفون، أو أن الثعبان أصلا غير سام لكنه مخيف جدا وهيبته فرضت النقل للمستشفى وظن الناس أن التسمم عولج، وبهذا أصبحت عضات الثعابين والأفاعي ليست مجالا للمجازفة والاجتهادات والقصص الوهمية مثل لدغات العقارب.

مشكلتنا الأكبر مع العقارب التي جميعها سامة وبعضها أشد سمية من الآخر ومع ذلك مررت في محاضراتي بمواقف لأطباء يعتقدون أن العقرب غير سام بل واجهت في مباشرتي لحالات ضحايا لدغ العقرب في غرف الطوارئ بطبيب طوارئ لم يقتنع أن العقرب سام إلا بعد وفاة خمسيني حضر ملدوغا بعقرب في يده وأحضر العقرب معه وتوفي (رحمه الله) نتيجة الاستهانة بصرخاته.

أثبتت دراساتنا في المركز الوطني لإنتاج الأمصال المعادلة لسموم الثعابين والعقارب بوزارة الحرس الوطني أن 20٪ من العقارب السوداء تكون إبرتها مسدودة، وعندما نحاول استخراج السم منها بالتنبيه الكهربي فإننا نضطر لقص طرف الإبرة ليخرج السم، هذه الظاهرة هي السبب الرئيس في شيوع الاعتقاد أن تلك العلاجات الشعبية من تمر وجمر وخلافه أنقذت الملدوغ وأخرجت السم، بينما السم لم يدخل أصلا!!

ومن أعجب ما شاع مؤخرا في مواقع التواصل الاجتماعي ما قاله أحد المجتهدين من كبار السن أن حرق العقرب ثم طحنه ودهن طحينه على حلمة ثدي الأم المرضع يجعل الرضيع يكتسب مناعة ضد سم العقرب، وهذا طبعا غير صحيح مطلقا وقد يؤدي للتساهل في حماية الطفل الذي اعتقدوا أنه مطعم ضد العقارب، فالحقيقة أن علم المناعة ومضادات الأجسام بريء تماما من مثل هذه الآليات، وقد نأتي في مقال آخر على ما نعانيه لحث جسم الخيل على إنتاج مضادات أجسام للسم عن طريق الحقن تحت الجلد على مدى شهور طويلة، والمؤكد أنه حتى الملدوغ عدة مرات لا يكتسب مناعة ضد السم كما يزعم البعض.

أما أطرف ما سمعت فهو قول الجدة حبابة في (سباحينها) وقصصها للأطفال أن العقرب اتفق مع الضفدع لينقله على ظهره فوق الماء لليابسة ووعده ألا يلدغه فيغرقان معا، لكن العقرب غلبه طبعه فلدغ الضفدع ومات وغرقا معا، ولحبابه أقول رفقا بمعلومات أطفالنا فسم العقرب لا يؤثر في ذوات الدم البارد إطلاقا (الضفدع من ذوات الدم البارد مثل الضب)، ولي في ذلك تجربة علمية طبقتها لمعرفة لماذا يعيش الضب مع العقرب بسلام وحماية دون أن تلدغه بل هي تحمي (بوابته) من أن تمسها يد، وقد خرجت من التجربة الدقيقة بموقف محرج طريف أرويه لكم في المقال القادم لضيق المساحة.

نشر بجريدة الرياض يوم الأربعاء 26 جمادى الآخرة 1447هـ 17 ديسمبر 2025م