اليوم: 22 سبتمبر، 2003

كثر القائلون وقل الفاعلون

كلما سمعت وزيراً يتحدث عن المثاليات ويمني الناس بأحلام عصافير يستحيل عليهم حتى مجرد تخيلها لأنهم يعيشون حقيقة الحرمان من أساسيات سهلة وصغائر أمور يسيرة.
وكلما سمعت وزيراً يضخم للمسؤول أفعاله ويثني عليها والواقع يشهد أن أبسط الاحتياجات غير متوفرة.

أقول كلما سمعت هذا وذاك تذكرت قول المأمون عندما وعظه رجل فأصغى إليه منصتا فلما انتهى الرجل من نصحه قال المأمون: “قد سمعت موعظتك، فأسأل الله أن ينفعنا بها وبما علمنا، غير أنا أحوج إلى المعاونة بالفعال منا الى المعاونة بالمقال، فقد كثر القائلون، وقل الفاعلون”، انتهى ما قاله المأمون.

أقول وبالله التوفيق، إذا كان المأمون ومنذ العصر العباسي قد قرر أن إحصائية القائلين غلبت الفاعلين بل إن أهل القول في تزايد وأهل العمل في تناقص منذ ذلك الوقت، فكيف هي الحال بنا اليوم؟

في عصر المأمون لم يكن هناك مذياع ولا تلفاز ولا انترنت أي أن أدوات القول كانت محدودة جدا تقتصر على الخطب “غير المنقولة بوسائل الإعلام” والقصائد الشعرية وحديث مجلس أمير المؤمنين ومع ذلك لاحظ المأمون أن القائلين في تزايد والفاعلين في تناقص فكيف بعصرنا هذا حيث تتوفر تقنيات الإغراء على القول من كاميرات تلفزيونية (ديجتال) تحمل ميكروفونات لاقطة تحول الصور الملونة المتحركة والصوت الجهوري إلى قنوات محلية وفضائية عربية وعالمية، إضافة إلى “فلاشات” صحفية مبهرة يبدو أنها تسبب الإدمان للبعض والتعود للبعض الآخر.

وفي المقابل لا توجد تقنيات الإجبار على العمل فقنوات المحاسبة والمتابعة شبه غائبة ووسائل الإعلام التي تنقل القول في اليوم نفسه لا تقدم تقارير عن التقصير في العمل باستثناء الفلاشات الصحفية التي إذا نقلت الوقع المخالف للقول قوبلت بالنفي “والنفي يتم بتقنية القول نفسها”!

أخشى أن زماننا هذا أصبح قولا كله وانعدم فيه الفعل، فشواهد الأقوال كثيرة وما يلمس من الأفعال قليل جدا وهذا ما نلحظه بالعين المجردة دون ارتداء نظارة سوداء فقد كثرت مناسبات الأقوال وقلت نتائج الأفعال وأصبحت فترات وزارية تنتهي وتتجدد وتنتهي وسمتها الأقوال والأماني والأحلام.

أجمل ما في الحياة الدنيا أن الأفعال تبقى لها آثار وعلامات ورموز تدعو إلى ذكر أصحابها بالخير بينما تخلف الأقوال تساؤلات وانتظاراً لا يلبث أن يطويه اليأس بعد أن يذكر أصحاب الأٍقوال باللوم والدعاء عليهم إذ وعدوا وأخلفوا.

منذ اليوم الذي قرر فيه المأمون إحصائيته عن تزايد القائلين ونَقءصِ الفاعلين وحتى يومنا هذا فإن آثار الأفعال باقية ووزر الأقوال ينتظر أصحابها.