اليوم: 26 يناير، 2002

عمل الأطباء.. القواعد والفرج

عدم التجاوب مع ما يطرح في الصحف من نقد وملاحظات، له عيوب متعددة، لكن أخطر هذه العيوب في نظري هو اطمئنان الفئة المنتقدة وبالتالي تماديها وانتشار الظاهرة لأن ما أثير حولها لم يحرك ساكناً في الجهات المعنية ولأن أحدا من المسؤولين لم يتحرك لوقف المخالفة.

موضوع العمل الجزئي للأطباء الحكوميين في مستشفيات القطاع الخاص والذي من المفترض أنه عمل مسائي، خارج وقت الدوام الرسمي للمستشفى الحكومي وخارج وقت المناوبات والمسؤوليات التي يلتزم بها الطبيب للمستشفى الأصل “مرجع عمله الأساسي”.

هذا الموضوع شهد تجاوزات خطيرة تمثلت للأسف في خروج عدد من الأطباء اثناء وقت الدوام الرسمي لتلبية طلب المستشفى الخاص واصبح المرضى في المستشفى الحكومي لا يرون الأطباء المشرفين على حالاتهم الا نادرا وترك امرهم للأطباء المقيمين، وهؤلاء بدورهم يحتاجون للطبيب الاستشاري “قائد الفريق” فلا يجدونه لأنه مشغول في مهمته الجديدة التي من المفترض والمتفق عليها أن تكون بعد وقت الدوام الرسمي.

حتى مرضى المستشفى الخاص لهم معاناتهم لأن الطبيب الذي يجري له الجراحة أو الكشف صباحا طبيب مخالف غير مطمئن وغير متفرغ قد يتركه في اي لحظة ولو اهتز “بيجره” فقد تهتز اعصابه ويخطئ.

التجاوزات التي شهدها العمل الجزئي لأطباء المستشفيات الحكومية في القطاع الخاص كتبت عنها كثيرا وكتب عنها غيري اكثر واثيرت في شكاوى المواطنين وتعقيباتهم وتناولتها “ندوة الثلاثاء” في هذه الجريدة بمشاركة أطباء مخلصين وعلى قدر كبير من المسؤولية، انتقدوا ما يحدث واعتبروه خروجا على أخلاقيات المهنة.

وقبل أن يحدث التحرك الرسمي والحل الجذري فإن الصمت وعدم التفاعل شجع عددا أكبر من الأطباء على ممارسة نفس التجاوزات على اعتبار أن السكوت علامة الرضى وأصبح تواجد الطبيب خاصة الاستشاري في مقر عمله الأساسي نادرا وغيابه هو الغالب والقاعدة بينما تواجده استثناء يشكر عليه(!!)

عندما كتبت عن هذا الموضوع اول وثاني وثالث مرة ركزت على منبع الظاهرة وهي المستشفيات الجامعية وتركيزي على المستشفيات الجامعية سببه أن عمل اطباء المستشفيات الجامعية في القطاع الخاص “مساء”، جاء تحت غطاء قانوني يسمح لأعضاء هيئة التدريس بالعمل في القطاع الخاص بعد وقت الدوام بشروط واضحة وبناء على اعتبارات محددة، لكن هذا الغطاء استغل لممارسة التجاوزات الخطيرة التي أشرنا اليها والتي كانت تجري تحت هذا الغطاء.

وقد عتب البعض شفهيا بسبب انني لم أتطرق لمن يمارسون نفس المخالفة في المستشفيات غير الجامعية وهو عتب في غير محله فأنا كنت اتحدث عن ممارسات تتم تحت غطاء السماح أما في المستشفيات الأخرى فانه ليس ثمة ما يسمح للطبيب بهذه الممارسة، وتأخر الطبيب صباحا أو خروجه اثناء الدوام لا يختلف عن تأخر أو خروج اي موظف اداري او فني آخر ويجب أن تتعامل معه الادارة المختصةعلى هذا الأساس وهذا ما يحدث فعلا فمديرو عدد من المستشفيات كثفوا مراقبة الأطباء بالنداء الآلي والاتصال الهاتفي وأقسام المتابعة، بل إن بعضهم اوجد حلولا جذرية كبدائل للعمل المسائي في القطاع الخاص.

أما نحن فكان يهمنا الباب الذي جاءت منه الريح ولم يسد لنستريح وهو باب الغطاء القانوني في الجامعات، ولهذا كان التركيز على مستشفياتها.

الأهم من هذا وذاك أن الظاهرة استشرت بشكل كبير واصبح المرضى يعانون منها وكذلك الأطباء المقيمون واطباء الامتياز والطلاب ولم يستفد منها الا مستشفيات القطاع الخاص والطبيب الذي يرى أن مصلحته تفوق اي اعتبار وأخلاقيات مهنية، مما اضطر مجلس الوزراء لتشكيل لجنة لاعداد قواعد تنظم عمل الأطباء بعد وقت الدوام الرسمي واثناء العطل وبعد دراسة مستفيضة اعدت القواعد واقرها المجلس ولعل من اهم سماتها هو ان الاطباء يعملون في نفس المؤسسات الطبية التي يتبعون لها وتحت اشرافها الامر الذي تحقق معه عدة مكاسب تحسب للجنة التي اعدتها وهي بقاء الطبيب مرتبطا في عمله الاضافي بنفس المؤسسة وعدم حاجته لمخاطبة ود جهات تجارية الى جانب استفادته ماديا واستفادة المؤسسة التي يتبع لها واستقرار المريض وحصوله على طبيبه عند الحاجة في نفس المؤسسة.

بقي أن يكون التطبيق دقيقا ومنصفا ومبنيا على عامل الكفاءة والشهرة وحاجة المريض ونجزم أن أحدا من المرضى لن يتضرر اثناء الدوام الرسمي لأن الجهة المشرفة والمنفذة هي ذات المؤسسة التي تهدف الى رعاية صحية مخلصة بالدرجة الأولى،ولكن حذار من حدوث التجاوزات لهذا الغطاء النظامي الجديد فالطب مهنة انسانية ذات اخلاقيات ومواثيق لا تحتمل الخدش.