تطرقت يوم أول أمس السبت في هذه الزاوية إلى صور إهمال ضحايا الأمراض النفسية وإهمال تخصص الطب النفسي بصفة عامة. ولأن المساحة لا تستوعب ولو جزءاً يسيراً من ألبوم صور الإهمال تلك فقد اكتفيت بإيماءة سريعة إلى واحد من أغرب الإجراءات وهو تحويل بعض المرضى النفسيين من مستشفى الصحة النفسية إلى دار الرعاية الاجتماعية “دار العجزة”.
هذه الخطوة الغريبة، القديمة، المستمرة، تستحق أكثر من وقفة وأكثر من زاوية وأكثر من مجرد محاسبة.
بالرغم من عدم وجود أدنى علاقة أو تشابه بين دار الرعاية الاجتماعية ومستشفى الصحة النفسية، باستثناء أن كلاً منهما يستخدم الأسرّة في التنويم، وبالرغم من عدم وجود أدنى علاقة أو تشابه بين المريض النفسي والمسن، باستثناء أن كلاً منهما يمكن أن يهذي دون أن يدافع عن نفسه أو يشتكي. أقول بالرغم من عدم التشابه إلاّ أن وزارة الصحة قررت نقل عدد من نزلاء المصحات النفسية لدور العجزة!!
هذا القرار ليس سياسياً ولا صحياً ولا اجتماعياً إنه مجرد قرار ارتجالي يعود تاريخه إلى أكثر من خمس عشرة سنة، وأجزم أن من اتخذه ومن وافق عليه يحمل في ميزانه ازر تلك السنوات إلى اليوم بمعدل تراكمي يفوق الإمتياز!!
اجتمع نفر من وزارة الصحة مع نفر من وزارة العمل والشؤون الاجتماعية لبحث “التخفيف” على مستشفى الأمراض النفسية “كما يسمى آنذاك” بنقل بعض نزلائه إلى دور العجزة!! وقد قاوم وفد ممثلي وزارة العمل هذا الطلب بكل ما أوتوا من قوة، ويبدو أن الوفد كان إلى الضعف أقرب، أو أن وفد الصحة حقنهم بمخدر قوي وسريع المفعول فحصلت الموافقة بعد وعد قاطع من وزارة الصحة بتزويد دار العجزة بعدد من الممرضات المتخصصات والأطباء وكم كبير من الأدوية النفسية مع دفعة المرضى النفسيين واقتنع وفد العمل على مضض دون أن يحسب أدنى حساب لمصير المسن الصحيح نفسياً عندما يهيج جاره المريض النفسي.
وصلت أفواج المرضى بلا ممرضات ولا أطباء ولا أدوية وحتى لا أظلم وزارة الصحة سأذكر أنهم أرسلوا عدداً من عاملات النظافة في شكل ممرضات.
كنت آنذاك شبه نزيل للدار في شكل محقق صحفي أتبع لجريدة الجزيرة وأتحدى أن يعرف التفاصيل أحد أكثر من مدير الدار آنذاك الأستاذ عبدالرحمن التويجري وأنا.
مات أحد المسنين من نزلاء الدار مقطعاً بموس حلاقة لمريض نفسي، وأسر لي عدد من المسنين الأسوياء خلقاً ووعياً وعقلاً أن بعض المرضى النفسيين يزعجون مضجعهم ليلاً ويؤذونهم في الفراش!!
أحداث مؤلمة وأخرى يندى لها الجبين نشرت بعضاً منها في حينه.
القرار التاريخي الظالم لايزال ساري المفعول رغم تغير أكثر من وزير للوزارتين!! ورغم أنه خلال هذه المدة تخرج مئات “الدكاترة” في علم النفس وعلم الاجتماع!! أتدرون لماذا لأن الفئة المتضررة لا تخرج من الدار إلاّ إلى الدار الآخرة!! ونداءات القائمين على دار الرعاية في هذا الصدد تصطدم بعدة حواجز بيروقراطية إلى أن “تبنط” في واحد وتعود إلى الدار!!
مشكلة وزاراتنا المتعددة أن بينها مناطق اشتراك في بعض الأمور، وتعيس الحظ من يقع مصيره في مناطق الاشتراك تلك، لأنه وكما يبدو فإن كل وزارة تستمتع حتى الثمالة بعملية قذف المسؤوليات على الوزارة الأخرى. أتذكرون لعبة الوادي المتصدع وكيف ضاع دمها بين قبائل الوزارات الثلاث؟! هذا ما يحدث في كل أمر مشترك!!
وإحقاقاً للحق فإنني لا أجد أدنى اشتراك بين وزارة العمل ووزارة الصحة في أمر المرضى النفسيين سوى أن منسوبي العمل وقعوا في شراك الصحة وأوقعوا معهم المسنين!! فهل من همام يحل هذه الأزمة المخجلة؟!
شخصياً اقترح عقد اجتماع قمة بين الوزارتين في “العود” بين قبور المسنين، لعلهم “يحللونهم” ولعلهم يتذكرون أن الدنيا فانية إلاّ من عمل صالح يتمثل في حل أزمة من لا نصير لهم ولا حيل ولا قوة.