حذرنا كثيراً من فكرة تولي القطاع الخاص إنشاء مختبرات خاصة لتحليل الأدوية واعتماد شهادات هذه المختبرات لافساح الدواء سواء المستورد أو المصنع داخلياً.
أما وقد أصبح الموضوع يدرس بجدية أو على وشك الموافقة عليه فانه لابد من المزيد من المصارحة والشفافية وايضاح أبعاد ما يعتقده البعض نشاطاً صحياً يمكن للقطاع الخاص ممارسته مثلما يمارس العلاج!!.
الدواء ليس سلعة عادية أو مادة استهلاكية تتوفر لها المشابهات والبدائل في كل الأحوال.
الدواء مادة أساسية استراتيجية تستخدم لممارسة الاحتكار في أحيان كثيرة بل إن كثيراً من انواع الدواء التي لم يمض على طرحها في السوق سنوات حق البراءة هي في الواقع محتكرة وبشكل كبير وبدائلها قليلة جداً أو معدومة وفي كثير من الدول خاصة في العالم الثالث تأتي ميزانية توفير الأدوية، اما في المرتبة الاولى أو الثانية بعد ميزانية شراء الأسلحة.
أريد القول ان المبالغ التي يتم التعامل بها لتوفير هذه المادة الأساسية، السرية، النادرة هي مبالغ ترقى إلى الأرقام التي تثور من أجلها الحروب والفتن وتستحق في نظر “المافيا” ان تشتري من أجلها الذمم وترخص لها الأرواح.
ثم إن المعلومة الدوائية معلومة مشتركةة عالمياً، يقوم لها العالم جميعاً ويقعد، بمعنى انه لو قرر مختبر دولة ما أن الدواء الفلاني التابع للشركة الفلانية لا يحتوي مادة فعالة أو ينطوي على خطر ما فإن جميع دول العالم تتفاعل مع هذه المعلومة وان كان بدرجات تتفاوت حسب قيــــــمة الإنســــــان فيها.
ثم ان حجم العقود لتوفير الدواء في هذه البلاد وغيرها يشكل مبالغ كبيرة جداً والشروط التعاقدية تنص على إتلاف الدواء الذي لا يجتاز التحليل وليس استرجاعه، أي ان قرار مختبر التحليل بالنسبة لوكيل الدواء أو الشركة الأم هو قرار حياة أو موت، هو قرار خسارة مئات الملايين أو ربح عشرات الملايين فهل يمكن ان نوكل منح شهادة نجاح الدواء لتاجر ومجموعة موظفين معظمهم من غير السعوديين بل وحتى وان كانوا سعوديين فإن انتماءهم وولاءهم وتحديد مصيرهم الوظيفي في يد تاجر.
قد يقول قائل ولماذا نفترض عدم الثقة في القطاع الخاص أو التاجر دائماً؟! وهنا نقول لقد منح القطاع الخاص ثقة كبيرة في أمور تتعلق بالحياة والموت لافراد وليس جماعات كموضوع الاجراءات الطبية والعلاج، أما يتعلق بمصير جماعي مثل فسح دواء يفترض ان ينقذ حياة الآلاف وإذا فسح وهو ليس فعالا فانه سيبقى طوال مدة الصلاحية (ثلاث سنوات) يخدع الروح تلو الاخرى فإن الأمر يختلف. ثم ان تجربتنا مع الثقة في القطاع الخاص غير مشجعة على الاطلاق خاصة في مجالات الصحة.
ألم تبع تقارير الإجازات المرضية؟! ألم تمنح شهادات الخلو من الأمراض لخادمات يحملن الايدز؟!.. ألم يسمح بممارسة الطب وجراحة المخ لمن لا يحملون غير خبرة في السباكة؟! ألم يخدع المريض بإعلانات طبية مبالغ فيها؟! ناهيك عن أطنان الأدوية منتهية الصلاحية التي استُبدل تاريخها وبيعت للمرضى وقد تكون أحد أسرار الوفاة المفاجئة لمرضى السكر والقلب والضغط والصرع والربو.
وفي الجانب غير الطبي ألسنا نصبح يومياً لنطالع خبراً يقشعر له البدن للممارسات التي تكتشفها لجان الغش التجاري وآخرها إعداد وجبات المرضى من لحوم بقر مفرومة ومخزنة في الزبالة؟!..
إن السؤال المنطقي هو لماذا نفترض حسن النية في القطاع الخاص ونمنحه الثقة طالما ان الأمر يتعلق بحياة أو موت جماعي مثل تحليل الأدوية.
اننا حينما نفعل ذلك فانه يفترض ان يكون لدينا جهاز رقابي حكومي فاعل وكبير بحجم خطر إفلات دواء واعداد هذا الجهاز سيكلفنا مبالغ تفوق ما نحتاجه لتطوير المختبرات الحكومية ودعمها بالأجهزة والموظفين وتركها تشكل رادعاً يصعب اختراقه ويقلق كل من تسول له نفسه الكسب على حساب أرواح الناس.
بقي ان أذكر بأن الأمن الدوائي لا يقل أهمية عند جميع الأمم عن أشكال الأمن الاخرى “الأمن الخارجي، الأمن الداخلي، الأمن الغذائي والمائي” وطالما أننا يستحيل ان نوكل اصدار الجواز وبطاقة الأحوال والاقامة للقطاع الخاص فإن من المنطلق نفسه يفترض ان لا نوكل اليه أمراً يتعلق بالأمن الدوائي!!.
أرجو من معالي وزير التجارة ومعالي وزير الصحة التفكير ملياً في هذا الأمر لأن خطورته لا تسمح بأدنى حد من المجاملة.