الشهر: مايو 2004

حسناً ليتبوّل عليه!!

لم يكن يدر بخلد أي مواطن أمريكي أو بريطاني أو عربي مخدوع بحقوق الإنسان الغربية أن قوات الاحتلال في العراق وهي ترافق الصحفيين والكاميرات في جولة داخل سجن أبوغريب في أول أيام سقوط النظام العراقي السابق وتطلعهم على وسائل وآليات التعذيب وكيف صممت زنزانات خاصة للذل وأخرى للإيذاء الجسدي والنفسي، أقول لم يكن يدر بخلد أي من المخدوعين أن القوات الأمريكية والبريطانية كانت تنظر بعين الإعجاب بتوفر الإمكانات اللازمة للتعذيب جاهزة لتستخدمها قوات ما سمي بالتحرير بأسلوب لا يختلف عما كان معدّا له في مفهوم الإذلال والاعتداء والتعذيب إلا من حيث ماهية منفذ التعذيب والتي تحولت من ذئب في جلد حمل.
إن ما أمكن إجازة نشره من صور التعذيب والإذلال لسجناء أبوغريب يعكس حقيقة الوحشية والبطش التي جاء بها الاحتلال منذ إطلاق أول صاروخ كروز أو أطنان القنابل على مجمعات سكنية إلى قتل الصحفيين العرب عنوة وقتل الغربيين المتعاطفين معهم مع سبق الإصرار والترصد ومروراً بقتل الأطفال وإعاقتهم مثلما حدث مع علي عباس وعلي حسين وهما من أشهر ضحايا الحرب الأحياء من الأطفال أحدهم بُتِر ذراعاه والآخر اقتلعت عينه وأنفه وشوّه وجهه.

الغريب جداً أنه رغم كل ما تعرضنا له نحن العرب والمسلمين من بطش العسكر من ذلك الجنس البشري، إن صحت نسبتهم للبشر ورغم أن تاريخنا موثق بالطابع الوحشي لهذا الجنس إلا أن كثيراً ممن يدعون أنهم مثقفون عرب وقراء تاريخ انخدعوا بحركات تمثيلية “هوليودية” للجنود الأمريكيين والبريطانيين وهم يلاعبون أطفال العراق ويقدمون لهم الهدايا ويتقاذفون معهم كرة القدم ولسان حال أولئك المنخدعين يقول بسعادة “هؤلاء هم العسكر وهكذا يكون الجيش الحنون!!” ولم يستفد أي منهم من ذاكرته العربية في توقع ما تخفيه تلك الحركات التمثيلية خلفها من ممارسات اغتصاب وإذلال وتبول على الكائن العربي بعد تجريده من إنسانيته.

حتى الأطفال علي وعلي استغل ما تعرضا له من إيذاء جسدي ووظف في شكل خطوة إعلامية سخيفة وغبية تصور ما حصل كل منهما عليه من رعاية طبية من قبل المتسبب وكأنه أعاد لعلي ذراعيه ولعلي الآخر عينه وجماله وحاول التقرير عبثاً وبغباء بالغ أن يصوّر لنا بضع ألعاب وهدايا واحتفالات وموسيقى عوّضت علياً وعلياً عمّا فقداه.

بنفس الغباء يتحدث بوش اليوم عن ضرورة “توبيخ” الجنود المسؤولين عن تعذيب السجناء العراقيين، لا بل يتحدث الناطق العسكري كارول وبعربية فصيحة عن بشرى جديدة للعرب والعراقيين تحديداً ألا وهي أن الإدارة الأمريكية تفكر في صرف تعويضات لمن تم تعذيبهم!! وكم هو إذلال أن تتحدث عن تعويض مهان من ماله!! حبذا لو حدد من أي برميل نفط عراقي سيتم تعويض من عذبه علج أمريكي أو بال عليه قذر بريطاني؟!.

هم حاربوا من أجل المادة ولذا فهم يعتقدون أن المادة تعوض كل شيء وتغني عن كل شيء حتى الكرامة.

لو كان لدينا كعرب ومسلمين القوة والقدرة لفرض إرادتنا فإن أقل ما يمكن أن نطالب به هو أن يتبول ذلك السجين العراقي علناً على الجندي الذي تبوّل عليه ونرفض أي تعويض آخر.

ولأن القوة والقدرة غير متوفرة حالياً فهل لنا أن نثير هذه الفكرة كمطالبة عربية مثلما نفعل دائماً على مستوى إعلامي؟! لنطالب بها فقط لنذكر بأننا لا نبيع كرامتنا بالمادة كما يفعلون ويعتقدون!!.

سلة الإحباطات

المعطيات تشير الى أننا نتفاعل مع الواقع والظروف بسرعة وجدية أكثر من أي وقت مضى، نحاول أن نسد الذرائع وندحض الحجج ونفعّل الإصلاح.
نسد الذرائع وندحض الحجج في الأمور والادعاءات التي نؤمن ونجزم أنها مختلفة أو مبالغ فيها وهذه تحتاج إلى جهد إعلامي وإعلام مضاد لدحضها وتبيان الحقيقة وقرع الحجة بالحجة وهذا جيد ويجب أن نكثف نشاطنا فيه ونعدد قنواتنا لمحاربته بإيضاح الصورة وسيادة الحقيقة وتلميع زجاج الشفافية ليصبح شفافاً أكثر.

ونفعّل الإصلاح في الجوانب التي وصلنا الى قناعات بأنها تعاني من قصور حاد، وممارسات خاطئة، وسلوكيات تسيء لنا كمجتمع وتستفز الكل بسبب سلوك البعض، والواضح أن لدينا النية والجزم على تفعيل الإصلاح ولكننا نخلط أحياناً بين دحض الحجج والادعاءات الواهية وممارسة الإصلاح كفعل واستجابة لقناعات.

الخلط يحدث أحياناً في استخدام سلاح الإعلام للتوجهين توجّه الدحض وتوجّه الإصلاح فالإعلام فعال في الأول ويجب أن يكون مكثفاً وشاملاً للداخل والخارج أما في الثاني فإن الإعلام ليس مطلباً أولياً للتحدث عن خطوة او خطوات حيث يفترض أن نبدأ بالفعل والتطبيق على أرض الواقع ثم نسخر الإعلام لتسليط الضوء على ما تم إنجازه وليس على ما سوف ينجز أو ما نزمع عمله!!.

أيضاً الأولويات تختلف وأهمية ترتيبها مختلفة هي الأخرى، ففي جانب تصحيح الصورة إعلامياً والرد على ادعاءات باطلة يمكنك ان تبدأ بأي منها وتتناول الادعاءات دون ترتيب بل يلعب التوقيت دوره فقط.

أما في جانب تصحيح مسارات اقتنعنا بأنها خاطئة فيفترض ان تكون الأولوية للأهم والأكثر تأثيراً في شريحة أكبر أو الأكثر استفزازاً للغالبية أو الشريحة الأكثر تأثيراً وحيوية.

فمعالجة بطالة الشباب مثلاً أهم وأكثر أولوية من إتاحة الفرص لمشاركة المرأة في مجالات محددة وضيقة، فبطالة الشباب أكثر تأثيراً على كافة المجتمع في شكل الحاجة والفاقة والعطل والفراغ ومن ثم السرقة والقتل وتقبل الأفكار المنحرفة وممارسة الجريمة، في حين أن مشاركة المرأة تبقى موضوع خلاف بين قلة وغالبية. هذا مجرد مثال توضيحي للمقارنة بين الأولى والأكثر أولوية.

ويمكن القياس والمقارنة بين عوامل كثيرة من مسببات الإحباط والبدء بالأهم منها قبل الأقل أهمية وتفعيل الإصلاح في ماهو أهم قبل ماهو مهم.

الفساد الإداري واستغلال المال العام واستغلال السلطة إذا ما وضعت معاً فيما يمكنني تسميته “سلة المحبطات” ووضع معها التأخر عن الدوام أو عمل الموظف الحكومي في التجارة خارج وقت الدوام أو رواج الواسطة والشفاعة، فما من شك أن المجموعة الأولى أولى بالإصلاح وأكثر اهمية كونها الأكثر استفزازاً في سلة الإحباطات تلك.

إهانة متبرع

أذكر أنه منذ أن كان الدكتور غازي القصيبي وزيراً للصحة دعيت لعضوية لجنة للحث على التبرع بالدم ولبيت الدعوة التي حضرها معالي الوزير بنفسه وشرح خلال الجلسة الأولى مدى الحاجة الملحة لتشجيع الناس على التبرع بدمائهم بسبب ما نعانيه من نقص بسبب عوامل كثيرة أهمها ارتفاع معدل حوادث السير ورغبة الوطن بالاكتفاء الذاتي في هذا المجال والاستغناء التام عن الدم المستورد غير المأمون.
منذ ذلك الوقت وحتى اليوم كان الحث والتشجيع على أشده وصل حد منح أوسمة عالية وهدايا وأخبار لتبرع كبار المسؤولين ليكونوا قدوة لغيرهم.

اليوم أضافت الظروف الأمنية عاملاً آخر يحتم ضرورة أن يزداد الاهتمام بالتشجيع على التبرع بالدم ففي حادث الوشم وحده كانت الإصابات تفوق المائة والخمسين في لحظة وليست ساعة، كما أن حوادث السير الدامية استمرت في ارتفاع حسب إحصائيات موثقة ومعلنة.

كعادتنا فإن التشجيع والحث الإعلامي وخطط التوعية تحقق نجاحاً سريعاً وتأثيراً قوياً لأن المواطن يتمتع بدرجة كبيرة من الوعي والتدين وحب عمل الخير ولا يريد إلا منحه الفرصة التي تحافظ على كرامته.

أي أن التجاوب من الناس ليس مشكلتنا الكبرى بل لا يشكل مشكلة إطلاقاً. المشكلة تكمن في أن التنفيذ في واد والتشجيع في واد. كيف؟؟.

دعوني أستشهد بموقف واحد حدث يوم الأربعاء المشؤوم، يوم تفجير إدارة المرور بالوشم، حيث اتضح بحكم الظرف وما ورد في وسائل الإعلام والدعوة عبر مواقع الإنترنت ورسائل الجوال أن ثمة حاجة ماسة لكميات من الدم.

أعرف صديقين من الوزن الثقيل (ولا أقول الدم الثقيل لأن هذا المفهوم يتعارض مع روح المرح والنخوة) لكن المؤكد أن دم كل منهما يغلي حباً للوطن ونجدة للمواطن والمقيم وهو شعور جميل جعلهما رغم أن يوم الأربعاء نهاية الأسبوع ورغم التزاماتهما الأسرية ورغم انهما يخرجان من الدوام في الخامسة مساءً فقد ذهبا مباشرة إلى مجمع الرياض الطبي للتبرع بالدم وهناك طلب منهما تعبئة استمارة والانتظار.

يقول أحدهما: لم يكن في موقع التبرع سوى موظف واحد بنجلاديشي الجنسية وآخر سعودي ممشوق القامة يبدو أن له دوراً قيادياً يتضح من توجيهاته لنا فقد طلب منا تعبئة الاستمارة والانتظار بعبارة (انتظروا هنا مع غيركم حتى نطلبكم)، وكان في المكان حوالي خمسة عشر رجلاً من راغبي التبرع ينتظرون مثلنا، وخلاف ما ذُكر فإنه لا يوجد طاقم تمريض لسحب الدم ولا موظفو استقبال أو تنظيم وكراسي التبرع خالية وكان واضحاً أن ذلك الموظف يطلب انتقال ممرضين للموقع لسحب الدم لكن شيئاً من ذلك لم يحدث.

يقول: طال بنا الانتظار وكأننا جئنا إلى مكتب الضمان الاجتماعي حيث لا ينعم المراجع بأي ترحيب أو حتى تقدير مشاعر بل يمن عليه بالجلوس والانتظار.

ويردف قائلاً التفت إلي زميلي قائلاً “الظاهر انهم يعتقدون اننا جئنا نطلب الدم وليس لنتبرع، أو أن ثلاجاتهم لم تعد تتسع للدم” وبقينا ننتظر مع غيرنا دون أن يبدأ سحب الدم لمن هم قبلنا فكيف بنا، فقررنا أن نذهب للمستشفى التخصصي فربما أن الحاجة هناك!! وخرجنا ومعنا “استمارات” التبرع ولم يكلف أحد نفسه أن يسألنا لماذا غادرنا بمن فيهم الموظف البنجلاديشي وكأن هماً قد انزاح عن قلوبهم وليس (صهريجا) دم قد غادرا!!.

يقول ذهبنا للتخصصي وهناك رفض دخولنا بسبب الإجراءات الأمنية وأخبرنا أن استقبال الدم توقف ولم يعد هناك حاجة (انتهى ما ذُكر).

قلت: هل هكذا يتم استقبال من وضعنا في اللجنة المذكورة الخطط والإجراءات لتشجيعهم وتساءلت ولا زلت هل مشكلتنا في هذا البلد أزمة تبرع بالدم أم أزمة من ليس عنده دم؟!!.

لجنة الانطباعات

لا شك أن الاسطوانة المشروخة والتي كان يرددها البعض ليعلق عليها أخطاءه وأعني هنا عبارة “وعي المواطن” أصبحت الآن أقل استخداما وترديداً لسبب واقعي وطبيعي وهو ان استخدامها في السابق بكثرة وفي كل مناسبة لم يكن في محله ولم يكن منطقياً والسبب الثاني أن المواطن انفتحت أمامه السبل لإيضاح نفسه فأثبت المواطن العادي أنه لا يقل وعياً عن المواطن المسؤول في شأن وظيفي وربما كان أكثر إدراكاً واحساساً بالمسؤولية ووعياً بما حوله.
لعل جل مشاكلنا تكمن في التخمين والحكم بناء عليه وسوء التقدير وبناء الحكم عليه!!

قد تكون عبارة فيها الكثير من الفلسفة بمفهومها الشائع أو السجع، لكنها “ركبت” معي هكذا ولم اقصد بها أن ألحن أو أسجع أو “أتفلسف”.

فقط أردت أن أقول إننا نعتمد في أحكامنا على ما نعتقده وعلى انطباعات غير مبنية على دراسة احصائية أو مسح سكاني مع توفر كل الإمكانات البشرية والأكاديمية والمادية والمؤسساتية لأن نجري مثل هذه الدراسات لكي تكون أحكامنا ليست صادرة عن تخمين أو مبنية على أساس سوء تقدير!!

معظم قراراتنا تتخذها لجان مناقشة وليست لجان دراسة مع أننا نقول “درستها اللجنة” والواقع أن اللجنة ناقشتها بأصوات مرتفعة نابعة من انطباعات منخفضة لأنها غير مدعومة بدراسة أو مسح!!

أحياناً لأنها غير مدعومة بدراسة أو مسح!!

أحياناً نحاول أن نزين اللجنة بمجموعة من الأكاديميين من أساتذة الجامعات، لكننا لا نطالبهم بدراسات وبحوث علمية فهم يأتون بهويتهم الوظيفية وليس بناء على ما يتأبطونه من دراسات أو احصائيات أو أبحاث وبالتالي فإن استضافة طالب علم جامعي يجري بحثاً أهم وأكثر فائدة من اختيار استاذ جامعي وصل “بشته” قبله، لأننا في واقع الحال في أمس الحاجة إلى دارس لا مدرس، نحتاج إلى دراسة لا فراسة!!.

في حياتي الوظيفية التي اشتملت على أكثر من جهة دعيت واخترت في عدة لجان واعترف لكم أن معظم الاختيار أو الترشيح أو الدعوة للجنة كان على أساس وظيفي أو فراسة أو خبرة لا على أساس أني صاحب دراسة، ولأن الرفض أو الاعتذار عن الترشيح للجنة يعتبر تقاعساً وأحياناً يصل حد التمرد على من رشحك فقد قبلت ببعضها ورفضت كثيراً.

وفي اللجان التي شاركت فيها استطيع أن أعطيكم حكماً مبنياً على دراسة احصائية وليس مجرد انطباع شخصي أو تخمين وهو أن جميع اللجان التي حضرتها شهدت قرارات حاسمة وتمس شريحة كبيرة من الناس وكانت نسبة القرارات التي اتخذت بناء على آراء واجتهادات الأعضاء هي 100% وأستطيع أن أؤكد لكم أن عدد المرات التي سأل فيها رئيس اللجنة أحد الأعضاء سؤالاً هاماً هو “ما هو مرجعك، الذي تستند إليه في حكمك؟!” هو صفر!! أو صفر ونصف من المرات والرقم الأخير ليس له مرجع في الرياضيات وليس مهماً المرجع.