لنوزّع هذا الشريط!!

منذ ما يزيد على خمسة عشر عاماً أجريت تحقيقاً صحفياً عن دار الرعاية الاجتماعية “العجزة” نشر على ثلاث صفحات ليحكي واقعاً مريراً من العقوق للوالدين والكبير من الأشقاء والشقيقات، شعرت وأنا أسمع قصصهم بأسى عظيم لازمني عدة سنوات كنت خلالها أزورهم كل خميس وأذكر ان أحدهم وهو شيخ في كامل قواه العقلية والبدنية، يحفظ القرآن والشعر ويستطيع العيش بنشاط بل والعمل، لو لم يحبس في الدار، أودعه شقيقه الدار لأن زوجة الشقيق لا تريده في المنزل وعلمت من زياراتي له بعد النشر أن شقيقه حضر ووبخه لأنه تحدث للجريدة. وكان كلما هرب يقتات على ما يرميه الناس أو يتصدقوا به عليه أو يدعوه لتناوله في منزلهم وكلما علم شقيقه قبض عليه وأعاده للدار حفاظاً على سمعته!!

أما الآخر فأودعه أبناؤه الثلاثة الدار على انها مستشفى العيون ومكث فيها خمس سنوات لم يشاهدهم ومات وهو يدعو عليهم.

كان هذا منذ خمسة عشر عاماً ويبدو أن الحال قد ازدادت سوءاً، فقد سمعت شريطاً لخطبة الشيخ ابراهيم الحارثي بعنوان “حب يتدفق” يتحدث في بدايته عن عمق حب الوالدين لأبنائهم ويسرد قصصاً إعجازية في هذا الصدد وقبل أن أنقل مختصراً لهذه الخطبة القيمة أقترح على دار الرعاية الاجتماعية أن توزع نسخاً منه على أقرباء نزلاء الدار وأجزم، إن كان بقي ذرة من ضمير انه سيستيقظ. يقول الشيخ ابراهيم الحارثي: جاء في بعض الكتب أن أمية الكناني رجل من سادات قومه وكان له ابن اسمه كلاب هاجر إلى المدينة في خلافة عمر رضي الله عنه فأقام بها مدة ثم لقي ذات يوم بعض الصحابة فسألهم أيما الأعمال أفضل في الإسلام فقالوا الجهاد فذهب إلى عمر يريد الغزو فأرسله عمر في جيش إلى بلاد الفرس فلما علم أبوه بذلك تعلق به وقال لا تدع أباك وأمك شيخين ضعيفين ربياك صغيراً حتى إذا احتاجا إليك تركتهما فقال أترككما لما هو خير لي ثم خرج غازياً بعد أن أرضى أباه فأبطأ في الغزو وتأخر وكان أبوه وأمه يجلسان يوماً في ظل نخل لهم وإذا حمامة تدعو فرخها الصغير وتلهو معه وتروح وتجيء فرأها الشيخ فبكى فرأته العجوز يبكي فبكت ثم أصاب الشيخ ضعف في بصره فلما تأخر ولده كثيراً ذهب إلى عمر رضي الله عنه ودخل المسجد فقال والله يا ابن الخطاب لئن لم ترد علي ولدي لأدعوّن عليك في عرفات فكتب عمر رضي الله عنه برد ولده إليه فلما قدم ودخل عليه قال له عمر ما بلغ من برك لأبيك قال كنت أوثره وأكفيه أمره وكنت إن أردت أن أحلب له لبناً أجيء إلى أغزر ناقة في ابله فأريحها واتركها حتى تستقر ثم أغسل أخلافها حتى تبرد ثم أحلب له فأسقيه فبعث عمر إلى الرجل فدخل على عمر وهو يتهاوى وقد ضعف بصره وانحنى ظهره فقال له عمر رضي الله عنه كيف انت يا أبا كلاب قال كما ترى يا أمير المؤمنين فقال ما أحب الأشياء إليك اليوم؟ قال ما أحب اليوم شيئاً ما أفرح بخير ولا يسوؤني شر فقال عمر فلا شيء آخر قال بلى أحب أن كلاباً ولدي عندي فأشمه شمّة واضمه ضمّة قبل أن أموت فبكى عمر رضي الله عنه وقال ستبلغ ما تحب إن شاء الله ثم أمر كلاباً ان يخرج وأن يحلب لأبيه ناقة كما كان يفعل ويبعث بلبنها إليه فقام ففعل ذلك ثم جاء وناول الإناء إلى عمر فأخذه رضي الله عنه وقال اشرب يا أبا كلاب فلما تناول الإناء ليشرب وقربه من فمه قال والله يا أمير المؤمنين اني لأشمّ رائحة يدي كلاب فبكى عمر وقال له هذا كلاب عندك وقد جئناك به فوثب إلى ابنه وأخذ يضمه ويعانقه وهو يبكي فجعل عمر رضي الله عنه والحاضرون يبكون ثم قال يا بني الزم ابويك فجاهد فيهما ما بقيا ثم اعتن بشأن نفسك بعدهما..

دور العجزة الدور التي يوضع الكبار والعجائز بها ليجدوا الرعاية والأمان حتى يتوفاهم الموت فإذا كانت هذه الدور لمن لا معين له ولا ولد له فحيا هلا وانعم بها من مكان أما إذا كانت لمن تخلى عنهم أبناؤهم وأرسلوهم إلى تلك الدور تخلصاً من المسئولية وتفريطاً في حق الأبوين الكريمين وتضييعاً للبر والوفاء فلا وألف لا.. وما ينبغي السكوت على من فعل ذلك بأبويه أو بأحدهما ووالله لو كان لي من الأمر شيء لأنزلت بالعاقين الجاحدين أشد العقاب ولجعلتهم عبرة لكل من تسوّل له نفسه ان يعمل ذلك والحقيقة ان تلك الدور بكل أسف تمتلئ بالمنكسرين والمحبطين من الآباء والأمهات الذين تخلى عنهم أبناؤهم وألقوهم في تلك الدور يجترون الذكريات الحزينة في جو كئيب موحش يمتلئ بالغدر والجحود ونكران الجميل ترى كيف يعيش ذلك الأب وتلك الأم بعيداً عن الذين أفنوا أعمارهم وهم يحوطونهم بالرعاية والحب؟! كيف استطاع أولئك الجاحدون ان ينتزعوا مشاعرهم وعواطفهم من قلوبهم ويلقوا بأغلى وأعز وأحب الناس في غياهب دور العجزة؟! هل هذا من الوفاء أو من البر؟! هل هذا من الشكر الذي قرنه الله بشكره في قوله {ان اشكر لي ولوالديك} يقول ابن عباس رضي الله عنه من شكر الله ولم يشكر لوالديه لم يقبل الله منه عملاً هل هذا من الإحسان الذي اوجبه الله في قوله {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين احسانا}.

ثم راح الشيخ يسرد مواقف من العقوق يشيب لها الرضيع.

اترك رد